أكان للناس} أي : أهل مكة، استفهام إنكار للتعجب. وقوله تعالى :﴿عجباً﴾ خبر كان، والعجب تغير النفس بما لا تعرف سببه مما خرج عن العادة، ثم ذكر الحامل على العجب ؛ وهو اسم كان بقوله تعالى :﴿أن أوحينا﴾ أي : إيحاؤنا ﴿إلى رجل منهم﴾ أي : من أهل مكة ومن قريش، وهو محمد ﷺ يعرفون صدقه ونسبه وأمانته، قيل : كانوا يقولون : العجب أنّ الله تعالى لم يجد رسولاً يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب، وهو من فرط حماقتهم وقصور نظرهم على الأمور العاجلة، وجهلهم بحقيقة الوحي والنبوّة، وهو لم يكن ﷺ يقصر عن عظمائهم فيما يعتبر فيه إلا في المال، وخفة المال أهون شيءٍ في هذا الباب، ولذلك كان أكثر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبله كذلك، وقد قال الله تعالى :﴿وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقرّبكم عندنا زلفى﴾ (سبأ ٣٧)
﴿أن أنذر الناس﴾ عامّة، أي : أعلمهم مع الخوف ما أمامهم من البعث وغيره، وأن هي المفسرة ؛ لأنّ الإيحاء فيه معنى القول. ﴿وبشر الذين آمنوا﴾ إنما عمم في الإنذار لأنه قل أن يسلم أحد من كبيرة أو صغيرة أو هفوة جليلة أو حقيرة على اختلاف الرتب وتباين المقامات، وخصص البشارة إذ ليس للكافر ما يصح أن يبشر به. ﴿أنَّ﴾ أي : بأنَّ. ﴿لهم قدم﴾ أي : سلف ﴿صدق عند ربهم﴾ اختلفت عبارات المفسرين وأهل اللغة في معنى قدم صدق، فقال ابن عباس : أجراً حسناً مما قدّموا من أعمالهم. وقال مجاهد : الأعمال الصالحة : صلاتهم وصومهم وصدقتهم وتسبيحهم. وقال الحسن : عمل صالح أسلفوه يقدمون عليه. وقال عطاء : مقام صدق لا زوال له ولا بؤس فيه. وقال زيد بن أسلم : هو شفاعة الرسول ﷺ وأضيف القدم إلى الصدق وهو نعته كقولهم : مسجد الجامع، وصلاة الأولى، وحب الحصيد. وقال أبو عبيدة : كل سابق في خير أو شرّ فهو عند العرب قدم. قال الشاعر :
*صل لذي العرش واتخذ قدما ** ينجيك يوم العثار والندم
وهو مؤنث فيقال : قدم حسنة وقدم صالحة. وقوله تعالى :﴿قال الكافرون إنَّ هذا لسحر مبين﴾ قرأه نافع وأبو عمرو وابن عامر بكسر السين وسكون الحاء على أنَّ الإشارة للقرآن المشتمل
على ذلك، والباقون بفتح السين وألف بعدها وكسر الحاء على أنّ الإشارة للنبيّ صلى الله عليه وسلم.
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣
إنّ ربكم﴾
الموجد لكم والمربي والمحسن هو ﴿الله الذي خلق﴾ أي : قدّر وأوجد ﴿السموات والأرض﴾ على اتساعهما، وكثرة ما فيهما من المنافع ﴿في ستة أيام﴾ من أيام الدنيا، أي : في قدرها ؛ لأنه لم يكن ثمّ شمس، ولو شاء لخلقهما في لمحة، والعدول عنه لتعليم خلقه التثبت. فإن قيل : إنّ اليوم قد يراد به اليوم مع ليلته، وقد يراد به النهار وحده. فما المراد ؟
أجيب : بأنّ الغالب في اللغة أنه مراد باليوم اليومَ بليلته، ولما أوجد سبحانه وتعالى هذا الخلق الكبير المتباعد الأقطار، الواسع الانتشار، المفتقر إلى عظيم التدبير، ولطيف التصريف والتقدير ؛ عبّر سبحانه وتعالى عن عمله فيه عمل الملوك في ممالكهم بقوله مشيراً إلى عظمته بأداة التراخي :﴿ثم استوى﴾ أي : عمل في تدبيره وإتقان ما فيه وإحكامه عمل المعتني بذلك. ﴿على العرش﴾ المتقدّم وصفه في الأعراف بالعظمة، وليست ثم للترتيب، بل كناية عن علوِّ الرتبة، وبعد منازلها، ثم بيّن ذلك الاستواء بقوله :﴿يدبر الأمر﴾ كله فلا يخفى عليه عاقبة أمر من الأمور ؛ لأنَّ التدبير أعدل أحوال الملك، فالاستواء كناية عنه. وقوله تعالى :﴿ما من شفيع إلا من بعد إذنه﴾ تقرير لعظمته جل وعلا، وردّ على من زعم أنَّ آلهتهم تشفع لهم عند الله. وفيه إثبات الشفاعة لمن أذن له ﴿ذلكم الله﴾ أي : الموصوف بتلك الصفات المقتضية للألوهية والربوبية ﴿ربكم﴾ أي : الذي يستحق العبادة منكم. ﴿فاعبدوه﴾ أي : وحّدوه ولا تشركوا به بعض خلقه من ملك أو إنسان، فضلاً عن جماد لا يضرّ ولا ينفع، فإنَّ عبادتكم مع التشريك ليست عبادة، ولولا فضله لم يكن لمن زلّ أدنى زلة طاعة، وقوله تعالى :﴿أفلا تذكرون﴾ قرأه حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال، والباقون بالتشديد بإدغام التاء في الأصل في الذال، أي : أفلا تتفكرون أدنى تفكر فينبئكم عن أنه المستحق للربوبية، والعبادة لا ما تعبدونه.


الصفحة التالية
Icon