﴿ونجيناه ولوطاً﴾ من نمروذ وقومه من أرض العراق ﴿إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين﴾ وهي الشام بارك الله فيها بالخصب وكثرة الأشجار والثمار والأنهار، ومنها بعث أكثر الأنبياء قال أبيّ بن كعب بارك الله فيها وسماها مباركة ؛ لأن ما من ماء عذب إلا وينبع أصله من تحت الصخرة التي ببيت المقدس أي : يهبط من السماء إلى الصخرة ثم يتفرّق في الأرض قاله أبو العالية، وعن قتادة أنّ عمر رضي الله تعالى عنه قال لكعب الأحبار ألا تتحول إلى المدينة فيها مهاجر رسول الله ﷺ وقبره، فقال كعب : إني وجدت في كتاب الله المنزل يا أمير المؤمنين إن الشام كنز الله في أرضه، وبها كنزه من عباده، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار الناس إلى مهاجر إبراهيم ؛ قال محمد بن إسحاق استجاب لإبراهيم رجال من قومه حين رأوا ما صنع الله عز وجل به من جعل النار عليه برداً وسلاماً على خوف من نمروذ وملئهم، وآمن به لوط، وكان ابن أخيه وهو لوط بن هاران بن تارح وهاران هو أخو إبراهيم، وكان لهما أخ ثالث يقال له ناحور بن تارح، وآمنت به أيضاً سارة وهي بنت عمه، وهي سارة بنت هاران الأكبر عمّ إبراهيم، فخرج من كوثى وهي بضم الكاف ومثلثة قال ابن الأثير هي كوثن العراق وهي سرّة السواد، وبها ولد إبراهيم الخليل عليه السلام، وخرج مهاجراً إلى ربه ومعه لوط وسارة كما قال تعالى :﴿فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي﴾ فخرج يلتمس الفرار بدينه والأمان على عبادة ربه حتى نزل حران، فمكث بها ما شاء الله، ثم خرج منها مهاجراً حتى قدم مصر، ثم خرج من مصر إلى الشام، فنزل السبع من أرض فلسطين، وهي برية الشام، ونزل لوط بالمؤتفكة، وهي على مسيرة يوم وليلة من السبع فبعثه الله تعالى نبياً إلى أهلها وما قرب منها فذلك قوله تعالى :﴿ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين﴾ (الأنبياء، ٧١)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٦٧
أي : كما أنجيناك أنت يا أشرف الخلق ويا أفضل أولاده، وصديقك أبا بكر رضي الله تعالى عنه إلى طيبة التي شرفناها بك وبثثنا من أنوارها في أرجاء الأرض وأقطارها ما لم نبث مثله قط وباركنا فيها للعالمين بالخلفاء الراشدين وغيرهم من العلماء والصالحين الذين انبثت خيراتهم العملية والعلمية والمالية في جميع الأقطار، ولما ولد لإبراهيم عليه السلام في حال شيخوخته وعجز امرأته مع كونها عقيماً، وكان ذلك دالاً على الاقتدار على البعث الذي السياق كله له قال تعالى :
﴿ووهبنا له﴾ دالاً على ذلك بنون العظمة ﴿إسحاق﴾ أي : من شبه العدم وترك شرح حاله لتقدّمه أي : فكان ذلك دليلاً على اقتدارنا على ما نريد لا سيما من إعادة الخلق في يوم الحساب، ثم إنه قد يظن أنه لتولده بين شيخٍ فانٍ وعجوز عقيم كان على حالة من الضعف لا يولد لمثله معها نفى ذلك بقوله تعالى :﴿ويعقوب نافلة﴾ أي : ولداً
٥٦٨
لإسحاق زيادة على ما دعا به إبراهيم عليهما السلام، ثم نمى سبحانه وتعالى أولاد يعقوب، وهو إسرائيل وذرّياتهم إلى أن ساموا النجوم عدّة وباروا الجبال شدّة ﴿وكلاً﴾ من هؤلاء الأربعة وهم إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب وعظم رتبتهم بقوله تعالى :﴿جعلنا صالحين﴾ أي : مهيئين لطاعتهم لله تعالى لكل ما يرونه أو يرادون له، أو يراد منهم، ثم لما ذكر أنه تعالى أعطاهم رتبة الصلاح في أنفسهم ذكر أنه تعالى أعطاهم رتبة لإصلاح لغيرهم، فقال تعالى معظماً لإمامتهم :
﴿وجعلناهم أئمة﴾ أي : أعلاماً ومقاصد يقتدى بهم في الدين لما آتيناهم من العلم والنبوّة، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية المكسورة بين الهمزة والياء، ويجوز إبدالها عندهم ياء خالصة ولا يدخلون بينهما شيئاً وقرأ هشام بتحقيق الهمزتين وإدخال ألف بينهما بخلاف عنه في الإدخال وعدمه، والباقون بتحقيق الهمزتين من غير إدخال بلا خلاف ﴿يهدون﴾ أي : يدعون إلينا من وفقناه للهداية ﴿بأمرنا﴾ أي : بإذننا ﴿وأوحينا إليهم﴾ أيضاً ﴿فعل﴾ أي : أن يفعلوا ﴿الخيرات﴾ ليحثوهم عليها، فيتم كمالهم بانضمام العلم إلى العمل، قال البقاعي : ولعله تعالى عبّر بالفعل دلالة على أنهم امتثلوا كل ما يوحي إليهم، وقال الزمخشري : أصله أن تفعل الخيرات، ثم فعلا الخيرات، ثم فعل الخيرات، وكذلك إقام الصلاة وإيتاء الزكاة انتهى. وقوله تعالى :﴿وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة﴾ من عطف الخاص على العام تعظيماً لشأنهما ؛ لأن الصلاة تقرب العبد إلى الحق تعالى، والزكاة إحسان إلى الخلق، قال الزجاج : الإضافة في الصلاة عوض عن تاء التأنيث يعني : فيكون من الغالب لا من القليل ﴿وكانوا لنا﴾ دائماً جبلة وطبيعة ﴿عابدين﴾ أي : موحدين مخلصين في العبادة ولذلك قدَّم الصلة، القصة الثالثة : قصة لوط عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٦٧