وقال : إلهي إنما هوّن على أيوب المال والولد إنه يرى أنك ما متعته بنفسه، فإنك تعيد له المال والولد، فهل أنت مسلطي على جسده، فقال الله عزّ وجلّ : انطلق فقد سلطتك على جسده، ولكن ليس لك سلطان على لسانه ولا على قلبه ولا على عقله، وكان الله عز وجل أعلم به لم يسلطه عليه إلا رحمة لأيوب ليعظم له الثواب ويجعله عبرة للصابرين وذكرى للعالمين في كل بلاء نزل بهم ليتأسوا به في الصبر ورجاء الثواب، فانقض عدوّ الله سريعاً فوجد أيوب في مصلاه ساجداً، فعجل قبل أن يرفع رأسه فأتاه من قبل وجهه، فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها سائر جسده، فخرج من قرنه إلى قدمه ثآليل مثل أليات الغنم، ووقعت فيه حكة، فحك بأظفاره حتى سقطت كلها، ثم حكها بالمسوح الخشنة حتى قطعها، ثم حكها بالفخار والحجارة الخشنة، فلم يزل يحكها حتى بقل لحمه، وتقطع وتغير وأنتن، وأخرجه أهل القرية وجعلوه على كناسة، وجعلوا له عريشاً فرفضه خلق الله كلهم غير امرأته، وهي رحمة بنت إفرائيم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، فكانت تختلف إليه بما يصلحه وتلزمه، ولما رأى الثلاثة من أصحابه وهم اليفن وبلدد وصابر ما ابتلاه الله تعالى به اتهموه ورفضوه من غير أن يتركوا دينه، فلما طال به البلاء انطلقوا إليه، فبكتوه ولاموه، وقالوا له : تب إلى الله تعالى من الذنب الذي عوقبت عليه، قال وحضره معهم فتى حديث السنّ قد آمن به وصدّقه فقال لهم : إنكم تكلمتم أيها الكهول، وأنتم أحق بالكلام مني لأسنانكم، ولكنكم تركتم من القول أحسن من الذي قلتم،
٥٧٥
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٧٣
ومن الرأي أصوب من الذي رأيتم، ومن الأمر أجمل من الذي أتيتم، وقد كان لأيوب عليكم من الحق والذمام أفضل من الذي وصفتم، فهل تدرون أيها الكهول حق من انتقصتم وحرمة من انتهكتم، ومن الرجل الذي عبتم واتهمتم ؛ ألم تعلموا أنه أيوب نبي الله وخيرته وصفوته من أهل الأرض إلى يومكم هذا، ثم لم تعلموا ولم يطلعكم الله على أنه قد سخط شيئاً من أمره منذ ما آتاه الله ما آتاه إلى يومكم هذا ولا أنه نزع شيئاً منه من الكرامة التي أكرمه بها، ولا أنّ أيوب قال على الله غير الحق في طول ما صحبتموه إلى يومكم هذا، فإن كان البلاء هو الذي أزرى به عندكم ووضعه في أنفسكم فقد علمتم أن الله تعالى يبتلي المؤمنين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، وليس بلاؤه لأولئك على سخطه عليهم، ولا لهوانه لهم، ولكنها كرامة وخبرة لهم، ولو كان أيوب ليس من الله بهذه المنزلة إلا أنه أخ آخيتموه على وجه الصحبة لكان لا يجمل بالحكيم أن يعذل أخاه عند البلاء ولا يعيره بالمصيبة، ولا يعيبه بما لا يعلم وهو مكروب حزين، ولكنه يرحمه ويبكي معه، ويستغفر له، ويحزن لحزنه ويدله على أرشد أمره، وليس بحكيم ولا رشيد من جهل هذا، فالله الله أيها الكهول، فقد كان في عظمة الله وجلاله وذكر الموت ما يقطع ألسنتكم، ويكسر قلوبكم، ألم تعلموا أنّ لله عباداً أسكتتهم خشيته من غير عيّ، ولا بكم، وإنهم لهم الفصحاء البلغاء النبلاء الألباء العالمون بالله، ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله انقطعت ألسنتهم، واقشعرّت جلودهم، وانكسرت قلوبهم، وطاشت عقولهم إعظاماً لله وإجلالاً له، فإذا استفاقوا من ذلك استبقوا إلى الله بالأعمال الزاكية يعدّون أنفسهم مع الظالمين والخاطئين، وإنهم لأبرار براء، ومع المقصرين المفرطين، وإنهم لأكياس أقوياء.
فقال أيوب : إنّ الله سبحانه وتعالى يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير، فمتى ثبتت في القلب يظهرها الله تعالى على اللسان، وليست تكون الحكمة من قبل السن والشيبة، ولا طول التجربة، وإذا جعل الله العبد حكيماً في الصبا لم تسقط منزلته عند الحكماء، وهم يرون عليه من الله تعالى نور الكرامة، ثم أعرض عنهم أيوب عليه السلام يعني الثلاثة وقال : أتيتموني غضاباً رهبتم قبل أن تسترهبوا، وبكيتم قبل أن تضربوا، فكيف بي لو قلت تصدقوا عليَّ بأموالكم لعل الله أن يخلصني، أو قربوا قرباناً لعل الله أن يتقبله ويرضى عني، وإنكم قد أعجبتكم أنفسكم، وظننتم أنكم عوضتم بإحسانكم، ولو نظرتم فيما بينكم وبين ربكم، ثم صدقتم لوجدتم لكم عيوباً قد سترها الله تعالى بالعافية التي ألبسكم، وقد كنتم فيما خلا توقرونني وأنا مسموع كلامي معروف حقي منتصف من خصمي، فأصبحت اليوم وليس لي رأي ولا كلام، وأنتم كنتم أشد عليّ من مصيبتي، ثم أعرض عنهم أيوب وأقبل على ربه مستعيناً به مستغفراً متضرّعاً إليه.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٧٣


الصفحة التالية
Icon