فلما رجع إلى القائلة، وأخذ مضجعه أتاه، فدق الباب، فقال من أنت ؟
فقال : الشيخ المظلوم، ففتح له وقال : ألم أقل لك إذا قعدت فأتني، فقال : إنهم أخبث قوم إذا عرفوا أنك قاعد قالوا : نحن نعطيك حقك، وإذا قمت جحدوني قال : فانطلق فإذا جلست فأتني وفاتته القائلة، فلما جلس جعل ينظر فلا يراه، وشق عليه النعاس فلما كان اليوم الثالث قال لبعض أهله : لا تدعوا هذا الرجل يقرب من هذا الباب حتى أنام، فإنه قد شق عليّ النعاس، فلما كانت تلك الساعة جاء، فلم
٥٨٠
يأذن له الرجل فلما أعياه نظر، فرأى كوّة في البيت فتسور منها فإذا هو في البيت يدق عليه الباب من داخل فاستيقظ فقال : يا فلان ألم آمرك قال : أما من قبلي فلم تؤت فانظر من أين أتيت فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه وإذا بالرجل معه في البيت، فقال : أتنام والخصوم ببابك، فقال : أعدوّ الله قال : نعم أعييتني ففعلت ما ترى لأغضبك، فعصمك الله تعالى، فسمي ذا الكفل لأنه تكفل بأمر فوفى به، وقيل إن إبليس جاءه وقال : إن لي غريماً يظلمني، فأحب أن تقوم معي وتستوفي حقي منه، فانطلق معه حتى إذا كان في السوق خلاه وذهب وروي أنه اعتذر إليه وقال صاحبي هرب وقيل : إن ذا الكفل رجل كفل أن يصلي كل ليلة مائة ركعة إلى أن يقبضه الله تعالى، فوفى به واختلفوا في أنه هل كان نبياً ؟
فقال الحسن : كان نبياً، وعن ابن عباس أنه إلياس، وقيل : هو زكريا، وقيل : هو يوشع بن نون، وقال أبو موسى : لم يكن نبياً، ولكن كان عبداً صالحاً، ولما قرن الله تعالى بين هؤلاء الثلاثة استأنف مدحهم بقوله تعالى ﴿كلٌ﴾ أي : كل واحد منهم ﴿من الصابرين﴾ على ما ابتليناه به فآتيناهم ثواب الصابرين
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٧٩
وأدخلناهم في رحمتنا﴾
أي : فعلنا بهم من الإحسان ما يفعله الراحم بمن يرحمه على وجه عمهم من جميع جهاتهم، فكان ظرفاً لهم، ثم علل ذلك بقوله تعالى :﴿إنهم من الصالحين﴾ أي : لكل ما يرضاه تعالى منهم يعني أنهم جبلوا جبلة خير، فعملوا على مقتضى ذلك فكانوا من الكاملين في الصلاح وهم الأنبياء لأنّ صلاحهم معصوم عن كدر الفساد.
القصة الثامنة : قصة يونس عليه الصلاة والسلام المذكورة في قوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٧٩
﴿وذا النون﴾ أي : واذكر صاحب الحوت وهو يونس بن متى ويبدل منه ﴿إذ ذهب مغاضباً﴾ واختلفوا في معنى ذلك، فقال الضحاك : مغاضباً لقومه، وهو رواية العوفي وغيره عن ابن عباس قال : كان قوم يونس يسكنون فلسطين، فغزاهم ملك فسبى منهم تسعة أسباط ونصفاً وبقي سبطان ونصف، فأوحى الله تعالى إلى شعيب النبيّ عليه السلام أن سر إلى حزقيل الملك وقل له يوجه نبياً قوياً إلى هؤلاء فإني ألقي في قلوبهم الرعب حتى يرسلوا معه بني إسرائيل فقال له الملك فمن ترى ؟
وكان
٥٨١
في مملكته خمسة أنبياء فقال يونس : فإنه قويّ أمين، فدعا الملك يونس وأمره أن يخرج فقال يونس : هل أمرك الله بإخراجي قال : لا قال : فهل سماني لك، قال : لا، قال : فههنا أنبياء غيري أقوياء فألحوا عليه، فخرج من بينهم مغاضباً للنبيّ والملك ولقومه، فأتى بحر الروم فركبه، وقال عروة بن الزبير وسعيد بن جبير وجماعة ذهب عن قومه مغاضباً لربه إذا كشف عن قومه العذاب بعد ما وعدهم به وكره أن يكون بين قوم قد جربوا عليه الخلف فيما وعدهم واستحيا منهم، ولم يعلم السبب الذي رفع به العذاب عنهم، و كان غضبه أنفة من ظهور خلف وعده وأن يسمى كذاباً لا كراهية الحكم لله تعالى.
وفي بعض الأخبار أنه كان من عادة قومه أن يقتلوا من جرب عليه الكذب، فخشي أن يقتلوه لما لم يأتهم العذاب للميعاد، فغضب والمغاضبة ههنا من المفاعلة التي تكون من واحد كالمنافرة والمعاقبة، فمعنى قوله مغاضباً أي : غضباناً.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٨١
وقال الحسن : إنما غاضب ربه من أجل أنه أمره بالمسير إلى قوم لينذرهم بأسه ويدعوهم إليه، فسأل ربه أن ينظره ليذهب، فقيل له : إن الأمر أسرع من ذلك حتى سأله أن ينظره إلى أن يأخذ نعلاً يلبسها، فلم ينظره، وكان في خلقه ضيق، فذهب مغاضباً، وعن ابن عباس قال : أتى جبريل يونس فقال : انطلق إلى أهل نينوى فأنذرهم، قال التمس دابة قال : الأمر أعجل من ذلك، فغضب فانطلق إلى السفينة وقال وهب : إنّ يونس كان عبداً صالحاً، وكان في خلقه ضيق، فلما حمل عليه أثقال النبوّة تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل الثقيل، فقذفها بين يديه وخرج هارباً، فلذلك أخرجه الله تعالى من أولي العزم، فقال تعالى لنبيه ﷺ ﴿فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل﴾ (الأحقاف، ٣٥)، وقال :﴿ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم﴾ (القلم، ٤٨)


الصفحة التالية
Icon