ثم بيّن تعالى ما خص مريم وعيسى من الآيات فقال تعالى :﴿وجعلناها وابنها﴾ أي : قصتهما أو حالهما، ولذلك وحد قوله تعالى :﴿آية للعالمين﴾ من الجنّ والإنس والملائكة، وإنّ تأمّل حالهما تحقق كمال قدرة الله تعالى فإن قيل : هلا قال تعالى آيتين كما قال تعالى :﴿وجعلنا الليل والنهار آيتين﴾ (الإسراء، ١٢)
أجيب : بما تقدّم وبأن الآية كانت فيهما واحدة وهي أنها أتت به من غير فحل.
وههنا آخر القصص. ولما دل ما مضى من قصص هؤلاء الأنبياء عليهم السلام أنهم كلهم متفقون على التوحيد الذي هو أصل الدين قال تعالى :
﴿إن هذه﴾ أي : ملة الإسلام ﴿أمّتكم﴾ أي : دينكم أيها المخاطبون أي : يجب أن تكونوا عليها حال كونها ﴿أمة﴾ قال البغوي وأصل الأمّة الجماعة التي هي على مقصد واحدأ. ه فجعل الشريعة أمّة لاجتماع أهلها على مقصد واحدأ. ه ثم أكد سبحانه وتعالى هذا المعنى بقوله تعالى :﴿واحدة﴾ فأبطل ما سوى الإسلام من الأديان ﴿وأنا ربكم﴾ أي : المحسن إليكم لا غيري في كل زمان فإني لا أتغير على طول الدهر، ولا يشغلني شأن عن شأن ﴿فاعبدون﴾ دون غيري فإنه لا كفء لي، ثم إنّ بعضهم خالف الأمر بالاجتماع كما أخبر الله تعالى
﴿وتقطعوا﴾ أي : بعض المخاطبين ﴿أمرهم بينهم﴾ أي : تفرقوا أمر دينهم متخالفين فيه وهم طوائف اليهود والنصارى ؛ قال الكلبي : فرّقوا دينهم بينهم يلعن بعضهم بعضاً ويتبرأ بعضهم من بعض.
تنبيه : الأصل وتقطعتم إلا أنّ الكلام صرف إلى الغيبة على طريقة الالتفات كأنه ينعي عليهم ما أفسدوه إلى آخرين، ويقبح عليهم فعلهم عندهم، ويقول لهم : ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله تعالى، والمعنى : جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعاً كما يتوزع الجماعة الشيء
٥٨٤
ويقتسمونه بينهم، فيصير لهذا نصيب، ولذاك نصيب تمثيلاً لاختلافهم فيه وصيرورتهم فرقاً وأحزاباً شتى، ثم توعدهم بقوله تعالى :﴿كلٌ﴾ أي : من هذه الفرق وإن بالغ في التمرّد ﴿إلينا﴾ يوم القيامة ﴿راجعون﴾ فنحكم بينهم فيتسبب عن ذلك أنّا نجازيهم إقامة للعدل، فنعطي كلاً من المحق التابع لأصفيائنا والمبطل المائل إلى الشياطين أعدائنا ما يستحقه، وذلك هو معنى قوله تعالى فارقاً بين المحسن والمسيء تحقيقاً للعدل وتشويقاً إلى الفضل
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٨١
﴿فمن يعمل﴾ أي : منهم الآن ﴿من الصالحات وهو﴾ أي : والحال أنه ﴿مؤمن﴾ أي : يأتي بعمله على الأساس الصحيح ﴿فلا كفران﴾ أي : لا جحود ﴿لسعيه﴾ بل يشكر ويثاب عليه.
تنبيه : قوله تعالى : فلا كفران نفى الجنس ليكون أبلغ من أن يقول : فلا نكفر سعيه ﴿وإنّا له﴾ أي : لسعيه ﴿كاتبون﴾ أي : مثبتون في صحيفة عمله وما أثبتناه فهو غير ضائع فلا يفقد منه شيئاً قل أو جل، ومن المعلوم أنّ قسيمه وهو من يعمل من السيئات وهو كافر، فلا نقيم له وزناً، ومن يعمل منها وهو مؤمن فهو تحت مشيئتنا قال البقاعيّ : ولعله حذف هذين القسمين ترغيباً في الإيمان، ولما كان هذا غير صريح في أنَّ هذا الرجوع بعد الموت بيّنه بقوله تعالى :
﴿وحرام﴾ أي : ممنوع ﴿على قرية﴾ أي : أهلها ﴿أهلكناها﴾ أي : بالموت ﴿أنهم لا يرجعون﴾ أي : إلينا بأن يذهبوا تحت التراب باطلاً من غير إحباس بل إلينا بموتهم راجعون فحبسناهم في البرزخ منعمين أو معذبين نعيماً أو عذاباً دون النعيم والعذاب الأكبر.
تنبيه : ما قدّرناه في الآية هو ما جرى عليه البقاعيّ والذي قدّره الزمخشري أنَّ معنى أهلكناها عزمنا على إهلاكها، أو قدّرنا إهلاكها، ومعنى الرجوع الرجوع من الكفر إلى الإسلام والإنابة، فتكون لا مزيدة والذي قدّره الجلال المحلي أنّ لا زائدة أي : يمتنع رجوعهم إلى الدنيا فيكون الإهلاك بالموت، وهذا قريب مما قاله ابن عباس فإنه قال : وحرام على قرية أهلكناها أن يرجعوا بعد الهلاك، فجعل لا زائدة قال البغويّ وقال آخرون : الحرام بمعنى الواجب، فعلى هذا يكون لا ثابتاً ومعناه واجب على أهل قرية أهلكناهم أي : حكمنا بهلاكهم أن لا تتقبل أعمالهم لأنهم لا يرجعون أي : لا يتوبون والدليل على هذا المعنى أنه تعالى قال في الآية التي قبلها :﴿ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه﴾ أي : يتقبل عمله، ثم ذكر هذه الآية عقبه وبين أنّ الكافر لايتقبل عمله انتهى والذي قدّره البيضاوي قريب مما قدّره الزمخشري وكل هذه التقادير صحيحة ؛ لكن الأوّل أظهر، وقرأ شعبة وحمزة والكسائي بكسر الحاء وسكون الراء والباقون بفتح الحاء والراء وألف بعد الراء قال البغوي : وهما لغتان مثل حل وحلال، وقوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٨٥


الصفحة التالية
Icon