يوم} أي : تكون هذه الأشياء يوم ﴿نطوي السماء﴾ طياً، فتكون كأنها لم تكن ثم صوّر طيها بما يعرفونه، فقال مشبهاً للمصدر الذي دل عليه الفعل ﴿كطيّ السجلّ﴾، واختلف في السجلّ فقال بعضهم : هو الكاتب الذي له العلوّ والقدرة على مكتوبه ﴿للكتاب﴾ أي : القرطاس الذي يكتبه ويرسله إلى أحد، وقال السدّي : هو ملك يكتب أعمال العباد، وقيل : كاتب كان لرسول الله ﷺ والكتاب على هذه الأقوال اسم للصحيفة المكتوب فيها، وقال ابن عباس ومجاهد والأكثرون : السجل الصحيفة والمعنى كطيّ الصحيفة على مكتوبها، والطي هو الدرج، وهو ضدّ النشر، وإنما وقع هذا الاختلاف ؛ لأن السجل يطلق على الكتاب وعلى الكاتب قاله في القاموس، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بضم الكاف والتاء على الجمع، والباقون بكسر الكاف وفتح التاء، وبين الكاف والتاء ألف على الإفراد، فقراءة الإفراد لمقابلة لفظ السماء والجمع للدلالة على أن المراد الجنس، فجميع السموات تطوى.
٥٨٨
روي عن ابن عباس أنه قال : يطوي الله تعالى السموات السبع بما فيها من الخليقة
والأرضين السبع بما فيها من الخليقة يطوي ذلك كله بيمينه أي بقدرته، حتى يكون ذلك بمنزلة خردلة، وروي عن ابن عباس أنه قال : قام فينا رسول الله ﷺ بموعظة فقال :"أيها الناس إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلاً أي : غير مختونين" ﴿كما بدأنا أوّل خلق نعيده﴾ أي : كما بدأناهم في بطون أمهاتهم عراة غرلاً غير مختونين نعيدهم يوم القيامة ؛ نظيره قوله تعالى :﴿ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرّة﴾ (الأنعام، ٩٤)
﴿وعداً﴾ وأكد ذلك بقوله تعالى ﴿علينا﴾ وزاده بقوله تعالى :﴿إنّا كنّا﴾ أي : أزلاً وأبداً على حالة لا تحول ﴿فاعلين﴾ أي : شأننا أن نفعل ما نريد لا كلفة علينا في شيء من ذلك، ثم إنه تعالى حقق ذلك بقوله تعالى :
﴿ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر﴾ قال سعيد بن جبير ومجاهد الزبور جميع كتب الله تعالى المنزلة والذكر أمّ الكتاب الذي عنده، ومعناه من بعدما كتب ذكره في اللوح المحفوظ، وقال ابن عباس والضحاك : الزبور والتوراة والذكر الكتب المنزلة من بعد التوراة، وقال الشعبي : الزبور كتاب داود الذكر التوراة، وقيل : الزبور كتاب داود عليه السلام، والذكر القرآن، وبعد بمعنى قبل كقوله تعالى :﴿وكان وراءهم ملك﴾ (الكهف، ٧٩)
أي : أمامهم، وقوله تعالى :﴿والأرض بعد ذلك دحاها﴾ (النازعات، ٣٠)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٨٧
أي : قبله، وقرأ حمزة بضم الزاي والباقون بفتحها ﴿أن الأرض﴾ أي : أرض الجنة ﴿يرثها عبادي﴾ وحقق ذلك ما أفادته إضافتهم إليه بقوله تعالى :﴿الصالحون﴾ أي : المتحققون بأخلاق أهل الذكر، المقبلون على ربهم الموحدون له، المشفقون من الساعة، الراهبون من سطوته، الراغبون في رحمته، الخاشعون له، فهذا عام في كل صالح، وقال مجاهد : يعني أمّة محمد ﷺ دليله قوله تعالى :﴿وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوّأ من الجنة حيث نشاء﴾ (الزمر، ٧٤)
وقال ابن عباس : أراد أنّ أراضي الكفار يفتحها المسلمون، وهذا حكم من الله تعالى بإظهار الدين وإعزاز المسلمين، وقيل : أراد بالأرض الأرض المقدسة، وقيل : أراد جنس الأرض الشامل لبقاع أرض الدنيا كلها ولأرض المحشر والجنة وغير ذلك مما يعلمه الله تعالى، وجرى على هذا البقاعي في تفسيره، وقرأ حمزة بسكون الياء، والباقون بفتحها
﴿إنّ في هذا﴾ أي : القرآن كما قاله البغوي ﴿لبلاغاً﴾ أي : وصولاً إلى البغية، فإن من اتبع القرآن وعمل به وصل إلى ما يرجو من الثواب، وقيل : بلاغاً أي : كفاية يقال في هذا الشيء بلاغ وبلغة أي : كفاية، والقرآن زاد الجنة كبلاغ المسافر، وقال الرازي : هذا إشارة إلى المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة ﴿لقوم عابدين﴾ أي : عاملين به، وقال ابن عباس : عالمين، قال الرازي : والأولى أنهم الجامعون بين أمرين ؛ لأن العلم كالشجرة، والعمل كالثمر والشجر بدون الثمر غير مفيد، والثمر بدون الشجر غير كائن، وقال كعب الأحبار هم أمة محمد ﷺ أهل الصلوات الخمس، وشهر رمضان، ولما كان هذا مشيراً إلى إرشادهم فكان التقدير فما أرسلناك إلا لإسعادهم عطف عليه قوله تعالى :
﴿وما أرسلناك﴾ أي : على حالة من الأحوال ﴿إلا﴾ على حال كونك ﴿رحمة للعالمين﴾ كلهم أهل السموات وأهل الأرض من الجنّ والإنس وغيرهم طائعهم بالثواب وعاصيهم بتأخير
٥٨٩


الصفحة التالية
Icon