المرتبة السابعة : قوله تعالى :﴿ومنكم من يتوفى﴾ أي : عند بلوغ الأشدّ أو قبله ﴿ومنكم من يردّ﴾ بالشيخوخة وبناه للمجهول إشارة إلى سهولته عليه لاستبعاده لولا تكرار المشاهدة عند الناظر لتلك القوّة والنشاط وحسن التواصل بين أعضائه والارتباط ﴿إلى أرذل﴾ أي : أخس ﴿العمر﴾ وهو سنّ الهرم فتنقص جميع قواه ﴿لكيلا يعلم من بعد علم﴾ كان أوتيه ﴿شيئاً﴾ أي : ليعود كهيئته الأولى في أوان الطفولية من سخافة العقل وقلة الفهم فينسى ما علمه وينكر من عرفه حتى يسأل عنه من ساعته يقول لك : من هذا ؟
فتقول : فلان فما يلبث لحظة إلا سألك عنه.
فإن قيل : هذه الحالة لا تحصل للمؤمنين لقوله تعالى :﴿ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ أجيب : بأن معنى قوله تعالى :﴿ثم رددناه أسفل سافلين﴾ هو دلالة على الذمّ، فالمراد به ما يجري مجرى العقوبة، ولذلك قال تعالى : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، لكن قال عكرمة : من قرأ القرآن لم يصر إلى هذه الحالة، وقد علم بعود الإنسان في ذهاب العلم وصغر الجسم إلى نحو ما كان عليه في ابتداء الخلق قطعاً أن الذي أعاده إلى ذلك قادر على إعادته بعد الممات، ولما تم هذا الدليل على الساعة بحكم المقدّمات وأصح النتائج، وكان أوّل الإيجاد فيه غير مشاهد ذكر الله تعالى دليلاً آخر على البعث مشاهداً بقوله :﴿وترى الأرض هامدة﴾ أي : يابسة ساكنة سكون الميت ﴿فإذا أنزلنا﴾ أي : بما لنا من القدرة ﴿عليها الماء اهتزت﴾ أي : تحركت وتأهلت لإخراج النبات ﴿وربت﴾ أي : ارتفعت، وذلك أوّل ما يظهر منها للعين، وزادت ونمت بما يخرج منها من النبات الناشىء عن التراب والماء، وقوله تعالى :﴿وأنبتت﴾ مجاز ؛ لأنّ الله تعالى هو المنبت وأضيف إلى الأرض توسعاً أي : أنبتت بتقديرنا لا أنها المنبتة ﴿من كل زوج﴾ أي : صنف ﴿بهيج﴾ أي : حسن نضير من أشتات النبات في اختلاف ألوانها وطعومها وروائحها وأشكالها ومنافعها ومقاديرها، قال الجلال المحلي : من زائدة، ولم أرَ من ذكر ذلك من المفسرين.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٩٢
تنبيه : في الآية إشارة إلى أنّ النبات كما يتوجه من نقص إلى كمال، فكذلك الإنسان المؤمن
٥٩٦
يترقى من نقص إلى كمال، ففي المعاد يصل إلى كماله الذي أعدّ له من البقاء والغنى والعلم والصفاء والخلود في دار السلام مبرأ عن عوارض هذا العالم، ولما قرّر سبحانه هذين الدليلين رتب عليهما ما هو المطلوب والنتيجة، وذكر أموراً خمسة أحدها قوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٩٢
﴿ذلك﴾ أي : المذكور من بدء الخلق إلى آخر إحياء الأرض ﴿بأنّ﴾ أي : بسبب أن تعلموا أنّ ﴿الله﴾ أي : الجامع لأوصاف الكمال ﴿هو﴾ أي : وحده ﴿الحق﴾ أي : الثابت الدائم وما سواه فان، ثانيها قوله تعالى :﴿وأنه يحيي الموتى﴾ أي : قادر على ذلك وإلا لما أحيا النطفة والأرض الميتة، ثالثها : قوله تعالى :﴿وأنه على كل شيء﴾ من الخلق وغيره ﴿قدير﴾ ﴿إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون﴾ (يس، ٨٢)، رابعها : قوله تعالى :﴿وأن الساعة﴾ التي تقدّم ذكرها وتقدّم التحذير منها وهي حشر الخلائق كلهم ﴿آتية لا ريب﴾ أي : لا شك ﴿فيها﴾ أي : بوجه من الوجوه مما دلّ عليها مما لا سبيل إلى إنكاره بقول من لا مرد لقوله، وهو حكيم لا يخلف ميعاده، ولا يسوغ بوجه أن يترك عباده بغير حساب، خامسها : قوله تعالى :﴿وأنّ الله يبعث﴾ بالإحياء ﴿من في القبور﴾ بمقتضى وعده الذي لا يقبل الخلف، وقد وعد الساعة والبعث، فلا بدّ أن يفي بما وعد ونزل في أبي جهل بن هشام كما قاله ابن عباس :
﴿ومن الناس من يجادل﴾ أي : بغاية جهده ﴿في الله﴾ أي : في قدرته وما يجمعه هذا الاسم الشريف من صفاته بعد هذا البيان الذي لا مثل له ولا خفاء فيه ﴿بغير علم﴾ أتاه عن الله تعالى على لسان أحد من أصفيائه أعمّ من أن يكون كتاباً أو غيره ﴿ولا هدى﴾ أرشده إليه أعمّ من كونه بضرورة أو استدلال ﴿ولا كتاب منير﴾ له نور منه صح لديه أنه من الله تعالى، ومن المعلوم أنه بانتفاء هذه الثلاثة لا يكون جداله إلا بالباطل، وقيل : قوله تعالى :﴿ومن الناس﴾ كرّر كما كرّرت سائر الأقاصيص، وقيل : الأوّل في المقلدين، وهذا في المقلدين، وقوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٩٧
ثاني عطفة﴾ حال أي : لاوي عنقه تكبراً عن الإيمان كما قال تعالى :﴿وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً﴾ (لقمان، ٧)
والعطف في الأصل الجانب عن يمين أو شمال، وقوله تعالى :﴿ليضلّ عن سبيل الله﴾ علة للجدال، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بضمها.