تنبيه : قال الفرّاء : إنّ لا جرم بمنزلة قولنا لا بدّ ولا محالة، ثم كثر استعمالها حتى صارت بمنزلة حقاً. تقول العرب : لا جرم إنك محسن على معنى حقاً إنك محسن. وقال الزجاج : إنّ كلمة لا نفي لما ظنوا أنه ينفعهم، وجرم معناه : كسب ذلك الفعل والمعنى : لا ينفعهم ذلك وكسب ذلك الفعل لهم الخسران في الدنيا والآخرة. قال الأزهري : وهذا من أحسن ما قيل في هذا الباب. وقال سيبويه : لا ردّ على أهل الكفر كما مرّ. وجرم معناه : أحق
٥٨
والمعنى : أنه أحق كفرهم وقوع العذاب والخسران بهم واحتج سيبويه بقول الشاعر :
*ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ** جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
أراد أحقت الطعنة فزارة أن يغضبوا، ولما ذكر تعالى عقوبة الكفار وخسرانهم أتبعه بذكر أحوال المؤمنين في الدنيا وربحهم في الآخرة بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٥
إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم﴾ أي : اطمأنوا إليه وخشعوا، إذ الإخبات في اللغة هو الخشوع والخضوع وطمأنينة القلب، ويتعدّى بإلى وباللام فإذا قلت : أخبت فلان إلى كذا، فمعناه اطمأن إليه، وإذا قلت : أخبت له فمعناه خشع وخضع له، فقوله تعالى :﴿إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ إشارة إلى جميع عمل الجوارح. وقوله تعالى :﴿وأخبتوا﴾ إشارة إلى أعمال القلوب وهي الخشوع والخضوع لله تعالى، وإن هذه الأعمال الصالحة لا تنفع في الآخرة إلا بحصول أعمال القلب وهي الخشوع والخضوع ﴿أؤلئك﴾ أي : الذين هذه صفتهم ﴿أصحاب الجنة هم خالدون﴾ فأخبر تعالى عن حالهم في الآخرة بأنهم من أهل الجنة التي لا انقطاع لنعيمها ولا زوال. ولما ذكر سبحانه وتعالى أحوال الكفار وما كانوا عليه من العمى عن طريق الحق ومن الصمم عن سماعه وذكر أحوال المؤمنين وما كانوا عليه من البصيرة وسماع الحق والانقياد للطاعة ذكر فيهما مثالاً مطابقاً بقوله تعالى :
﴿مثل﴾ أي : صفة ﴿الفريقين﴾ أي : الكفار والمؤمنين ﴿كالأعمى والأصم﴾ هذا مثل الكافر شبه بالأعمى لتعاميه عن آيات الله، وبالأصم لتصامه عن استماع كلام الله تعالى وتأبيه عن تدبر معانيه ﴿والبصير والسميع﴾ هذا مثل المؤمن شبه بالبصير والسميع ؛ لأنّ أمره بالضدّ من الكافر فيكون كل منهما مشبهاً باثنين باعتبار وصفين، أو يشبه الكافر بالجامع بين العمى والصمم والمؤمن بالجامع بين ضدّيهما على أن تكون الواو في الأصم وفي السميع لعطف الصفة على الصفة، بخلافه على التشبيه الأوّل فإنه لعطف الموصوف على الموصوف، ويعبر عنه بعطف الذات على الذات ﴿هل يستويان﴾ أي : هل يستوي الفريقان ﴿مثلاً﴾ أي : تشبيهاً لا يستويان، ويصح أن يكون مثلاً صفة لمصدر محذوف، أي : استواء مثلاً، وأن يكون حالاً من فاعل يستويان وقوله تعالى :﴿أفلا تذكّرون﴾ فيه إدغام التاء في الأصل في الذال، أي : تتعظون بضرب الأمثال، والتأمّل فيها. وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد، وقد جرت عادة الله تعالى بأنه إذا أورد على الكفار أنواع الدلائل أتبعها بالقصص ليصير ذكرها مؤكداً لتلك الدلائل. وفي هذه السورة ذكر أنواعاً من القصص :
القصة الأولى : قصة نوح عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٥
﴿ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه﴾ وقوله :﴿إني لكم﴾ قرأه ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بفتح الهمزة، أي : بأني والباقون بكسرها على إرادة القول ﴿نذير مبين﴾ أي : بين النذارة أخوّف من العقاب لمن خالف أمر الله تعالى.
٥٩
وقوله :﴿أن لا تعبدوا إلا الله﴾ بدل من إني لكم أو مفعول مبين ﴿إني أخاف عليكم﴾ أي : إن عبدتم غيره ﴿عذاب يوم أليم﴾ أي : مؤلم موجع في الدنيا أو الآخرة. قال ابن عباس : بعث نوح بعد أربعين سنة ولبث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة. وقال مقاتل : وهو ابن مائة سنة. وقيل : وهو ابن خمسين سنة. وقيل : وهو ابن مائتين وخمسين سنة فكان عمره ألف سنة وأربعمائة وخمسين. ومكث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة، وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة. ولما حكى تعالى عن نوح عليه السلام أنه دعا قومه إلى عبادة الله تعالى حكى عنهم أنهم طعنوا في نبوّته بثلاثة أنواع من الشبهات بقوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٩