فقال الملأ الذين كفروا من قومه} وهم الأشراف ﴿ما نراك إلا بشراً مثلنا﴾ هذه الشبهة الأولى، أي : أنك بشر مثلنا لا مزية لك علينا تخصك بالنبوّة ووجوب الطاعة، وإنما قالوا هذه المقالة وتمسكوا بهذه الشبهة جهلاً منهم ؛ لأنّ الله تعالى إذا اصطفى عبداً من عباده وأكرمه بنبوّته ورسالته وجب على من أرسله إليهم اتباعه. الشبهة الثانية : ما ذكره الله تعالى عنهم بقوله تعالى :﴿وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا﴾ أي : أسافلنا كالحاكة وأهل الصنائع الخسيسة، وهو جمع أرذل بفتح الهمزة كقوله تعالى :﴿أكابر مجرميها﴾ (الأنعام، ١٢٣) وقوله ﷺ "أحاسنكم أخلاقاً" أو جمع أرذل بضم الذال جمع رذل بسكونها، فهو على الأوّل جمع مفرد وعلى الثاني جمع جمع، ثم قالوا : ولو كنت صادقاً لاتبعك الأكابر من الناس والأشراف منهم، وإنما قالوا ذلك جهلاً منهم أيضاً ؛ لأنّ الرفعة بالدين واتباع الرسول لا بالمناصب العالية والمال ﴿بادي الرأي﴾ أي : اتبعوك في أوّل الرأي من غير تثبت وتفكر في أمرك ولو تفكروا ما اتبعوك. ونصبه على الظرف، أي : وقت حدوث أوّل رأيهم. وقرأ أبو عمرو بادئ بهمزة مفتوحة بعد الدال والباقون بياء مفتوحة، وأبدل السوسي همزة الرأي ألفاً وقفاً ووصلاً. وأمّا حمزة فأبدلها وقفاً لا وصلاً. الشبهة الثالثة : ماذكره الله تعالى عنهم في قوله تعالى :﴿وما نرى لكم﴾ أي : لك ولمن اتبعك ﴿علينا من فضل﴾ أي : بالمال والشرف والجاه تستحقون به الاتباع منا وهذا أيضاً جهل منهم ؛ لأنّ الفضيلة المعتبرة عند الله تعالى بالإيمان والطاعة لا بالشرف والرياسة. وقولهم :﴿بل نظنكم كاذبين﴾ خطاب لنوح عليه السلام في دعوى الرّسالة وأدرجوا قومه معه في الخطاب. وقيل : خاطبوه بلفظ الجمع على سبيل التعظيم. وقيل : كذبوه في دعوى النبوّة وكذبوا قومه في دعوى العلم بصدقه، فغلب المخاطب على الغائبين. ولما ذكروا هذه الشبهة لنوح عليه السلام.
﴿قال﴾ لهم ﴿يا قوم أرأيتم﴾ أي : أخبروني ﴿إن كنت على بينة﴾ أي : نبوّة ورسالة ﴿من ربي وآتاني رحمة﴾ أي : نبوّة ورسالة ﴿من عنده﴾ من فضله وإحسانه ﴿فعميت﴾ أي : خفيت والتبست ﴿عليكم﴾ ووحد الضمير إمّا لأنّ البينة في نفسها هي الرحمة وإمّا لأنه لكل واحدة منهما. وقرأ حفص وحمزة والكسائي بضم العين وتشديد الميم والباقون بفتح العين وتخفيف الميم ﴿أنلزمكموها﴾ أي : أنكرهكم على قبولها ﴿وأنتم لها كارهون﴾ أي : لا تختارونها ولا تتأمّلون فيها لا نقدر على ذلك. قال قتادة : والله لو استطاع نبيّ الله لألزمها قومه ولكنه لا يملك ذلك، واتفق القراء على ضم النون من أنلزمكموها لاتصالها باللام
٦٠
رسماً، وحيث اجتمع ضميران وليس أحدهما مرفوعاً وقدم الأعرف منهما جاز في الثاني الوصل كما في الآية، والفصل كأن يقال : أنلزمكم إياها.
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٩
ويا قوم لا أسألكم عليه﴾
أي : على تبليغ الرسالة وهو وإن لم يذكر معلوم مما ذكر ﴿مالاً﴾ أي : جعلا تعطونيه ﴿إن﴾ أي : ما ﴿أجري إلا على الله﴾ أي : ما ثواب تبليغي إلا عليه فإنه المأمول منه تعالى. وقرأ ابن كثير وشعبة وحمزة والكسائي بسكون الياء والباقون بالفتح. وقول نوح عليه السلام :﴿وما أنا بطارد الذين آمنوا﴾ جواب لهم حين طلبوا طردهم، فإنهم طلبوا من نوح عليه السلام قبل أن يطرد الذين آمنوا وهم الأرذلون في زعمهم فقال : ما يجوز لي ذلك. ﴿إنهم ملاقوا ربهم﴾ أي : بالبعث فيخاصمون طاردهم عنده ويأخذ لهم ممن ظلمهم وطردهم أو أنهم يلاقونه ويفوزون بقربه فكيف أطردهم ﴿ولكني أراكم قوماً تجهلون﴾ أي : إنّ هؤلاء المؤمنين خير منكم أو عاقبة أمركم أو تسفهون عليهم بأن تدعوهم أراذل.
﴿ويا قوم من ينصرني﴾ أي : يمنعني ﴿من الله﴾ أي : من عقابه ﴿إن طردتهم﴾ عني وهم مؤمنون مخلصون ﴿أفلا﴾ أي : فهلا ﴿تذكرون﴾ أي : تتعظون. وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد بإدغام التاء في الأصل في الذال.


الصفحة التالية
Icon