ولما قدّم تعالى الحث على التقرّب بالأنعام كلها وكانت الإبل أعظمها خلقاً وأجلها في أنفسهم أمراً خصها بالذكر فقال تعالى :﴿والبدن﴾ أي : الإبل المعروفة جمع بدنة كخشب وخشبة وانتصابه بفعل يفسره ﴿جعلناها لكم من شعائر الله﴾ أي : من أعلام دينه التي شرعها الله تعالى وقيل لأنها تُشْعَر وهي أن تطعن بحديدة في سنامها ليعلم بذلك أنها هدي ﴿لكم فيها خير﴾ أي : نفع في الدنيا وثواب في العقبى كما قال ابن عباس دنياً وأخرى، وروى الترمذيّ وحسنه عن عائشة رضي الله تعالى عنه "أنّ رسول الله ﷺ قال : ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من هراقة الدم وأنه ليؤتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها وإنّ الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع إلى الأرض فطيبوا بها نفساً" وروى الدارقطني في السنن عن ابن عباس قال "قال رسول الله ﷺ ما أنفقت الورق في شيء أفضل من نحيرة في يوم عيد" وعن بعض السلف أنه لم يملك إلا تسعة دنانير فاشترى بها بدنة فقيل له في ذلك فقال سمعت ربي يقول ﴿لكم فيها خير﴾ ﴿فاذكروا اسم الله عليها﴾ أي : على ذبحها بالتكبير حال كونها ﴿صواف﴾ أي قائمة على ثلاث معقولة اليد اليسرى لأنّ البدنة تعقل إحدى يديها فتقوم على ثلاث ﴿فإذا وجبت جنوبها﴾ أي : سقطت سقوطاً بردت به بزوال أرواحها فلا حركة لها أصلاً، من وجب الحائط وجبة سقط، ووجبت الشمس وجبة غربت، قال ابن كثير وقد جاء في حديث مرفوع ولا تعجلوا النفوس أن تزهق وقوله تعالى ﴿فكلوا منها﴾ أي : إذا كانت تطوّعاً أمر إباحة دفعاً لما قد يظنّ أنه يحرم الأكل منها للأمر بتقريبها لله تعالى :﴿وأطعموا القانع﴾ أي المتعرّض للسؤال بخشوع وانكسار ﴿والمعتر﴾ أي : السائل وقيل بالعكس وهو قول الشاعيّ رحمه الله تعالى قال في كتاب اختلاف الحديث القانع هو السائل، والمعتر هو الزائر، وقيل : القانع هو الجالس في بيته المتعفف الذي يقنع بما يعطى ولا يسأل ولا يتعرّض، والمعتر المعترّض وقيل القانع هو المسكين والمعتر الذي ليس بمسكين، ولا تكون له ذبيحة فيجيء إلى القوم فيتعرّض لهم لأجل لحمهم ﴿كذلك﴾ أي مثل هذا التسخير العظيم الذي وصفناه من نحرها قياماً ﴿سخرناها﴾ بعظمتنا التي لولاها ما كان ذلك ﴿لكم﴾ وذللناها ليلاً ونهاراً مع عظمها وقوّتها تأخذونها منقادة فتعقلونها وتحبسونها ولو شئنا لجعلناها وحشية لم تطق ولم تكن بأعجز من بعض الوحش التي هي أصغر منها جرماً وأقل قوّة ﴿لعلكم تشكرون﴾ إنعامنا عليكم لتعرفوا أنّ ما ذللها لكم إلا الله تعالى، فيكون حالكم حال من يرجو شكره فتوقعوا لشكر بأن لا تحرّموا منها إلا ما حرّم عليكم ولا تحلوا منها إلا ما أحلّ، وتهدوا منها ما حث على إهدائه وتتصرفوا بحسب ما أمركم.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦١٠
ولما حث تعالى على التقرّب بها مذكوراً اسمه عليها قال تعالى :﴿لن ينال الله﴾ الذي له صفات الكمال ﴿لحومها﴾ المأكولة ﴿ولا دماؤها﴾ المهراقة أي : لا يرفعان إليه ﴿ولكن يناله التقوى منكم﴾ أي : يرفع إليه منكم العمل الصالح الخالص له مع الإيمان، كما قال تعالى :﴿والعمل الصالح يرفعه﴾ (فاطر : ١٠) أي : يقبله وقيل : كان أهل الجاهلية إذ انحروا البدن نضحوا
٦١٢
الدماء حول البيت ولطخوه بالدم فلما حج المسلمون أرادوا مثل ذلك فنزلت.
ثم كرّر سبحانه وتعالى التنبيه على عظيم تسخيرها منبهاً على ما أوجب عليهم به بقوله تعالى :﴿كذلك﴾ أي : التسخير العظيم ﴿سخرها لكم﴾ بعظمته وغناه عنكم ﴿لتكبروا الله على ما هداكم﴾ أي : أرشدكم لمعالم دينه ومناسك حجه، كأن تقولوا الله أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أولانا، فاختصر الكلام بأن ضمن التكبير معنى الشكر وعدّي تعديته.
ثم وعد من امتثل الأمر بقوله تعالى :﴿وبشر المحسنين﴾ أي : المخلصين فيما يفعلونه ويذرونه كما قال تعالى من قبل ﴿وبشر المخبتين﴾ والمحسن هو الذي يفعل الحسن من الأعمال ويتمسك به فيصير مخبتاً إلى نفسه بتوفير الثواب عليه، وقال ابن عباس : الموحدين. وقوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦١٠


الصفحة التالية
Icon