تنبيه : علم مما قدّرته أن بئر معطوف على قرية، وهو يقوي على أنّ عروشها بمعنى مع أوجه، وروي أنّ هذه بئر نزل عليها صالح عليه السلام مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به ونجاهم الله تعالى من العذاب وهي بحضرموت، وإنما سميت بذلك ؛ لأنّ صالحاً حين حضرها مات، وثم بلدة عند البئر اسمها حاضوراء بناها قوم صالح وأمّروا عليهم جهلس بن جلاس وأقاموا بها زماناً، ثم كفروا وعبدوا صنماً فأرسل الله تعالى إليهم حنظلة بن صفوان عليه السلام نبياً فقتلوه، فأهلكهم الله تعالى وعطل بئرهم، وخرب قصورهم، وقوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦١٣
﴿أفلم يسيروا﴾ أي : كفار مكة ﴿في الأرض﴾ يحتمل أنهم لم يسافروا فحثوا على السفر ليروا مصارع من أهلكهم الله تعالى بكفرهم ويشاهدوا آثارهم فيعتبروا، وإن يكونوا قد سافروا ورأوا ذلك ولكن لم يعتبروا، فجعلوا كأن لم يسافروا ولم يروا ﴿فتكون﴾ أي : فتسبب عن سيرهم أن تكون ﴿لهم قلوب﴾ واعية ﴿يعقلون بها﴾ ما رأوه بأبصارهم مما نزل بالمكذبين قبلهم ﴿أو﴾ أي : أو يكون لهم إن كانوا عمي الأبصار كما دل عليه جعل هذا قسيماً ﴿آذان يسمعون بها﴾ أخبارهم بالإهلاك وخراب الديار فيعتبروا ﴿فإنها﴾ أي : القصة ﴿لا تعمى الأبصار﴾ ويجوز أن يكون الضمير مبهماً يفسره الأبصار وفي تعمى راجع إليه، والمعنى أنّ أبصارهم صحيحة سالمة لا عمى فيها، وإنما العمى لقلوبهم كما قال تعالى :﴿ولكن تعمى القلوب التي في الصدور﴾ ولا يعتد بعمى الأبصار، فإنه ليس بعمى بالإضافة إلى عمى القلوب.
فإن قيل : فأي فائدة في ذكر الصدور ؟
أجيب : بأن الذي قد تعورف واعتقد أنّ العمى على الحقيقة للبصر، وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها واستعماله في القلب استعارة وتمثيل، فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار احتاج هذا التصوير إلى زيادة تبيين وفضل تعريف ليتقرّر أنّ مكان العمى هو القلوب لا الأبصار، كما تقول : ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك، فقولك : الذي بين فكيك تقرير لما ادّعيته للسانه وتثبيت ؛ لأن محل المضاء هو لا غير، فكأنك قلت : ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة ولا سهواً مني ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمداً. قيل : لما نزل قوله تعالى :﴿ومن كان في هذه أعمى﴾ فهو في الآخرة أعمى ؛ قال ابن أم مكتوم : يا رسول الله أنا في الدنيا أعمى، أفأكون في الآخرة أعمى، فنزلت :﴿ويستعجلونك
٦١٦
بالعذاب﴾
الذي توعدتهم به تكذيباً واستهزاء ﴿و﴾ الحال أنه ﴿لن يخلف الله﴾ أي : الذي لا كفء له ﴿وعده﴾ لامتناع الخلف فيه وفي خبره سبحانه وتعالى فيصيبهم ما وعدهم به، ولو من بعد حين لكنه تعالى حليم لا يعجل بالعقوبة، وقد أنجزه يوم بدر ﴿وإنّ يوماً عند ربك﴾ أي : المحسن إليك بتأخير العذاب عنهم إكراماً لك من أيام الآخرة بالعذاب ﴿كألف سنة مما تعدّون﴾ في الدنيا وطول أيامه حقيقة أو من حيث أنّ أيام الشدائد مستطالة، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦١٦
وكأين من قرية أمليت لها﴾
أي : أمهلتها كما أمهلتكم ﴿وهي ظالمة﴾ كظلمكم بالاستعجال وغيره ﴿ثم أخذتها﴾ أي : بالعذاب والمراد أهلها ﴿وإليّ المصير﴾ أي : المرجع فينقطع كل حكم دون حكمي ففيه وعيد وتهديد.
فإن قيل : لم قال :﴿فكأين من قرية أهلكناها﴾ (الحج، ٤٥)
بالفاء، وقال هنا بالواو ؟
أجيب : بأنّ الأولى وقعت بدلاً عن قوله تعالى :﴿فكيف كان نكير﴾، وأما هذه فحكمها حكم ما تقدّم من الجملتين المعطوفتين بالواو أعني قوله تعالى : ولن يخلف الله وعده وإنّ يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون، ولما كان الاستعجال لا يطلب من الرسول وإنما يطلب من المرسل، أمره الله تعالى بأن يديم لهم التخويف والإنذار بقوله تعالى :
﴿قل﴾ أي : لهم ولا يصدَّنك عن دعائهم ما أخبرناك به من عملهم ﴿يا أيها الناس﴾ أي : جميعاً من قومك وغيرهم ﴿إنما أنا لكم نذير مبين﴾ أي : بين الإنذار والاقتصار على الإنذار مع عموم الخطاب، وذكر الفريقين لأنّ صدر الكلام وسياقه للمشركين، وإنما ذكر المؤمنين وثوابهم بقوله :
﴿فالذين آمنوا﴾ أي : أقرّوا بالإيمان ﴿وعملوا﴾ أي : تصديقاً لدعواهم تلك ﴿الصالحات لهم مغفرة﴾ أي : لما فرط منهم ﴿ورزق﴾ أي : في الدنيا بالغنائم وغيرها، وفي الآخرة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ﴿كريم﴾ أي : لا خسة فيه ولا دناءة بانقطاع ولا غيره زيادة في غيظهم، ولما كان في سياق الإنذار قال معبراً بالماضي زيادة في التخويف


الصفحة التالية
Icon