﴿والذين سعوا﴾ أي : أوقعوا السعي ولو مرّة واحدة ﴿في آياتنا﴾ أي : القرآن بإبطالها ﴿معجزين﴾ من اتبع النبيّ ﷺ أي : ينسبونهم إلى العجز ويثبطونهم عن الإيمان أو مقدّرين عجزنا عنهم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتشديد الجيم بعد العين على أنها حال مقدّرة والباقون بألف بعد العين وتخفيف الجيم أي : مسابقين مشاقين للساعين فيها بالتثبيط ﴿أولئك﴾ البعداء البغضاء ﴿أصحاب الجحيم﴾ أي : النار استحقاقاً بما سعوا فيسكنهم فيها ليعلموا أنهم هم العاجزون، ولما لاح من ذلك أنّ الشيطان ألقى شبهاً يفاخرون فيها بجدالهم في دين الله الذي أمر رسوله محمداً ﷺ بإظهاره وتقريره وإشهاره عطف عليه تسلية له ﷺ قوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦١٦
٦١٧
﴿وما أرسلنا﴾ أي : بعظمتنا ﴿من قبلك﴾ ثم أكد الاستغراق بقوله تعالى :﴿من رسول﴾ وهو نبيّ أمر بالتبليغ ﴿ولا نبيّ﴾ وهو من لم يؤمر بالتبليغ وهذا هو المشهور، فمعنى أرسلنا أوحينا، فالنبي أعم من الرسول، ويدل عليه ما رواه الإمام أحمد من أنه ﷺ "سئل عن الأنبياء فقال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، قيل : فكم الرسل، فقال : ثلاثمائة وثلاثة عشر جماً غفيراً".
وقيل : كما هو ظاهر الآية الرسول من جمع إلى المعجزة كتاباً منزلاً عليه، والنبيّ غير الرسول من لا كتاب له، وقيل : يمكن حمل الآية عليه أيضاً، والرسول من يأتيه الكتاب، والنبيّ يقال له ولمن يوحى إليه في المنام ﴿إلا إذا تمنّى﴾ أي : تلا على الناس ما أمره الله تعالى به أو حدّثهم به، واشتهى في نفسه أن يقبلوه حرصاً منه على إيمانهم شفقة عليهم ﴿ألقى الشيطان﴾ من التشبيه والتخييلات ﴿في أمنيته﴾ أي : فيما تلاه أو حدث به واشتهى أن يقبل ما يتلقفه منه أولياؤه فيجادلون به أهل الطاعة ليضلوهم، وإنّ الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم، ﴿وكذلك جعلنا لكل نبيّ عدوّاً شياطين الإنس والجنّ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً﴾ (الأنعام، ١١٢)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦١٧
كما يفعل هؤلاء فيما يفترقون به في وجه الشريعة أصولاً وفروعاً من قولهم في القرآن شعر وسحر وكهانة، وقولهم :﴿لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا﴾ (الأنعام، ١٤٨)، وقولهم : إنّ ما قتله الله تعالى
٦١٨
بالموت حتف أنفه أولى بالأكل مما ذبح، وقولهم : نحن أهل الله وسكان حرمه، ولا نخرج من الحرم فنقف في الحج بالمشعر الحرام، وتقف الناس بعرفة، ونحن نطوف في ثيابنا وكذا من ولدناه، وأمّا غيرنا فلا يطوف إلا عارياً ذكراً كان أو أنثى إلا أن يعطيه أحدنا ما يلبسه، ونحو ذلك مما يريدون أن يطفئوا به نور الله تعالى، وكذا تأويلات الباطنية والاتحادية، وأنظارهم التي ألحدوا فيها يضل الله تعالى بها من يشاء، ثم يمحوها ممن أراد من عباده، وما أراد من أمره ﴿فينسخ﴾ أي : فيتسبب عن إلقائه أنه ينسخ ﴿الله﴾ أي : المحيط بكل شيء علماً وقدرة ﴿ما يلقي الشيطان﴾ فيبطله بإيضاح أمره ﴿ثم يحكم الله آياته﴾ أي : ثم يجعلها جلية فيما يريد منها وأدل دليل على أنّ هذا هو المراد من الافتتاح بالمتأخرة في الآيات الختام بقوله عطفاً على ما تقديره فالله على ما يشاء قدير ﴿والله عليم﴾ بأحوال خلقه ﴿حكيم﴾ فيما يفعله بهم. وقيل :