إنه ﷺ حدث نفسه بزوال المسكنة فنزلت، وقال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما من المفسريين لما رأى رسول الله ﷺ إعراض قومه عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم لما جاءهم به تمنى في نفسه أن يأتيهم من الله ما يقارب بينه وبين قومه، وذلك لحرصه على إيمانهم، فجلس ذات يوم في نادٍ من أندية قريش كثير أهله، وأحب يومئذٍ أن يأتيه من الله تعالى شيء لم ينفروا عنه وتمنى ذلك فأنزل الله تعالى سورة والنجم إذا هوى، فقرأها رسول الله ﷺ حتى بلغ أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وسوس إليه الشيطان حتى سبق لسانه سهواً إلى أن قال : تلك الغرانيق العلى، وإنّ شفاعتهنّ لترتجى ففرح به المشركون، ومضى رسول الله ﷺ في قراءة السورة كلها، وسجد في آخرها، وسجد المسلمون لسجوده وجميع من في المسجد من المشركين، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد سوى الوليد بن المغيرة وأبو أحيحة سعيد بن العاص، فإنهما أخذا حفنة من البطحاء ورفعاها على جبهتهما وسجدا عليها لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود، وتفرّقت قريش وقد سرهم ما سمعوا، وقالوا قد ذكر محمد آلهتنا تشفع بأحسن الذكر وقالوا : قد عرفنا أنّ الله تعالى يحيي ويميت ويرزق، ولكن هذه آلهتنا تشفع لنا عنده، فإذا جعل لهم محمداً نصيباً فنحن معه، فلما أمسى رسول الله ﷺ أتاه جبريل فقال : يا محمد ماذا صنعت لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله عز وجل، فحزن رسول الله ﷺ حزناً شديداً وخاف من الله تعالى خوفاً شديداً، فأنزل الله تعالى هذه الآية تعزية له وكان به رحيماً، وسمع بذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب النبي ﷺ وبلغهم سجود قريش، وقيل : قد أسلمت أهل مكة، فرجع أكثرهم إلى عشائرهم وقالوا : هم أحبّ إلينا حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن الذي كانوا يتحدّثون به من إسلام أهل مكة كان باطلاً، فلم يدخل أحد منهم إلا بجوار مستخفياً، فلما نزلت هذه الآية قالت قريش : ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتنا عند الله تعالى، فغيّر ذلك. قال الرازي : هذه رواية عامّة المفسرين الظاهرية أما أهل التحقيق فقد قالوا : هذه الرواية باطلة موضوعة، واحتجوا على البطلان بالقرآن والسنة والمعقول.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦١٧
أمّا القرآن فبوجوه أحدها : قوله تعالى :﴿ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين﴾ (الحاقة : ٤٤، ٤٥، ٤٦)
ثانيها : قوله تعالى :﴿قل ما يكون لي أن أبدّله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي﴾ (يونس، ١٥)، ثالثها : قوله تعالى :﴿وما ينطق عن الهوى﴾ (النجم، ٣)
وأمّا السنة فمنها ما روي عن محمد بن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة، فقال : هذا من وضع
٦١٩
الزنادقة وصنف فيه كتاباً، وقال البيهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، فقد روى البخاري في صحيحه :"أنه ﷺ قرأ سورة النجم وسجد فيها، وسجد المسلمون والكفار والإنس والجن"، وليس فيه حديث الغرانيق.
وأما المعقول فمن وجوه : أحدها : أنّ من جوّز على النبيّ ﷺ تعظيم الأوثان فقد كفر ؛ لأنّ من المعلوم بالضرورة أن النبيّ كان معظم سعيه في نفي الأوثان، ثانيها : قوله تعالى :﴿فينسخ الله ما يلقي الشيطان، ثم يحكم الله آياته﴾ (الحج، ٥٢)، وإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول ﷺ أقوى من نسخ هذه الآيات التي تبقى الشبهة معها فإذا أراد الله تعالى إحكام الآيات لئلا يلتبس ما ليس بقرآن قرآناً، فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلاً أولى، ثالثها : وهو أقوى الوجوه لو جوّزنا ذلك ارتفع الإيقان عن شرعه ولجوّزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك فيبطل قوله تعالى :﴿بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس﴾ (المائدة، ٦٧)، فإنه لا فرق في العقل بين النقصان من الوحي وبين الزيادة فيه.
وزاد الرازي أدلة أخرى على ذلك ثم قال : وقد عرفنا أنّ هذه القصة موضوعة أكثر ما في الباب أنّ جمعاً من المفسرين ذكروها وخبر الواحد لا يعارض الدلائل العقلية والنقلية المتواترة، انتهى. وهذا هو الذي يطمئن إليه القلب وإن أطنب ابن حجر العسقلاني في صحتها، ثم قال : وحينئذٍ فيتعين تأويل ما وقع فيها مما ينكر، وهو قوله : ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق إلخ، انتهى.
وعلى القول بها قد سلك العلماء في ذلك مسالك أحسنها أنّ النبيّ ﷺ كان يرتل القرآن فارتصده الشيطان في سكتة من السكتات، ونطق بتلك الكلمات محاكياً نغمته بحيث سمعه من دنا إليه فظنها من قوله وأشاعها، وقال البيضاوي : بعد أن ذكر بعض هذه القصة وهو مردود عند المحققين، وإن صح فابتلاء يتميز به الثابت على الإيمان عن المتزلزل فيه، انتهى.


الصفحة التالية
Icon