جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦١٧
قال ابن الأثير : والغرانيق هنا الأصنام، وهي في الأصل للذكور من طير الماء واحدها غرنوق وغرنيق سمي به لبياضه قال : وكانوا يزعمون أنّ الأصنام تقرّبهم من الله وتشفع لهم فشبهت بالطيور التى تعلو إلى السماء وترتفع، وقيل : تمنى أي : قرأ، كقول حسان في حق عثمان بن عفان :
*تمنى كتاب الله أوّل ليلة
** تمنى داود الزبور على رسل
أي : على تأن وتمهل. ولما ذكر سبحانه وتعالى ما حكم به من تمكين الشيطان من هذا الإلقاء ذكر العلة في ذلك بقوله تعالى :
﴿ليجعل ما يلقي الشيطان﴾ أي : في المتلو أو المحدّث به من تلك الشبهة في قلوب أوليائه على التفسير الأوّل، وعلى الثاني وغيره يؤوّل بما يناسبه ﴿فتنة﴾ أي : اختباراً وامتحاناً ﴿للذين في قلوبهم مرض﴾ أي : شك ونفاق ﴿والقاسية﴾ أي : الجافية ﴿قلوبهم﴾ عن قول الحق وهم المشركون ﴿وإنّ الظالمين﴾ أي : الواضعين لأقوالهم وأفعالهم في
٦٢٠
غير مواضعها كفعل من هو في الظلام ﴿لفي شقاق﴾ أي : خلاف لكونهم في شق غير شق حزب الله بمعاجزتهم في الآيات بتلك الشبهة التي تلقوها من الشيطان، وجادلوا بها أولياء الرحمن ﴿بعيد﴾ عن الصواب ﴿لتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون﴾ (الأنعام، ١١٣)، وعلى ثبوت ذكر القصة وجرى عليه الجلال المحلي ؛ قال : إنهم في خلاف طويل مع النبي ﷺ والمؤمنين حيث جرى على لسانه ذكر آلهتهم بما يرضيهم، ثم أبطل ذلك.
﴿وليعلم الذين أوتوا العلم﴾ بإتقان حججه وإحكام براهينه وضعف شبه المعاجزين ﴿أنه﴾ أي : الشيء الذي تلوته أو تحدثت به ﴿الحق﴾ أي : الثابت الذي لا يمكن زواله ﴿من ربك﴾ أي : المحسن إليك بتعليمك إياه ﴿فيؤمنوا به﴾ لما ظهر لهم من صحته بما ظهر من ضعف تلك الشبهة ﴿فتخبت﴾ أي : تطمئن وتخضع ﴿له قلوبهم﴾ وتسكن به نفوسهم ﴿وإنّ الله﴾ بجلاله وعظمته ﴿لهادي الذين آمنوا﴾ في جميع ما يلقيه أولياء الشيطان ﴿إلى صراط مستقيم﴾ أي : قويم، وهو الإسلام يصلون به إلى معرفة بطلانه حتى لا تلحقهم حيرة، ولا تعتريهم شبهة، فيوصلهم ذلك إلى سعادة الدارين
﴿ولا يزال الذين كفروا﴾ أي : وجد منهم الكفر وطبعوا عليه ﴿في مرية﴾ أي : شك ﴿منه﴾ قال ابن جريج : أي : من القرآن، وقيل : مما ألقى الشيطان على رسول الله ﷺ قولون : فما باله ذكرها بخير ثم ارتدّ عنها، وقيل : من الدين وهو الصراط المستقيم ﴿حتى تأتيهم الساعة﴾ أي : القيامة، وقيل : أشراطها، وقيل : الموت ﴿بغتة﴾ أي : فجأة ﴿أو يأتيهم عذاب يوم عقيم﴾ قال عكرمة والضحاك : لا ليل بعده وهو يوم القيامة، والأكثرون على أنه يوم بدر، وسمي عقيماً لأنه لم يكن في ذلك اليوم للكفار خير كالريح العقيم التي لا تأتي بخير، وقيل : لأنه لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه، ويقوي التفسير الأوّل قوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦١٧
الملك يومئذٍ﴾ أي : يوم القيامة ﴿لله﴾ أي : المحيط بجميع صفات الكمال وحده، ولما كان كأنه قيل : ما معنى اختصاصه به، وكل الأيام له قيل :﴿يحكم بينهم﴾ أي : المؤمنين والكافرين بالأمر الفصل الذي لا حكم فيه ظاهراً ولا باطناً لغيره كما ترونه الآن بل يمشي فيه الأمر على أتم شيء من العدل ﴿فالذين آمنوا وعملوا﴾ أي : وصدّقوا دعواهم الإيمان بأن عملوا ﴿الصالحات﴾ وهي ما أمرهم الله به ﴿في جنات النعيم﴾ فضلاً منه ورحمة لهم بما رحمهم الله تعالى من توفيقهم للأعمال الصالحات
﴿والذين كفروا﴾ أي : ستروا ما أعطيناهم من المعرفة بالأدلة على وحدانيتنا ﴿وكذبوا بآياتنا﴾ أي : ساعين بما أعطيناهم من الفهم في تعجيزها بالمجادلة بما يوحي إليهم أولياؤهم من الشياطين من الشبه ﴿فأولئك﴾ أي : البعداء عن أسباب الكرم ﴿لهم عذاب مهين﴾ أي : شديد بسبب ما سعوا في إهانة آياتنا مريدين إعزاز أنفسهم بمغالبتنا والتكبر عن آياتنا.
فإن قيل : لم أدخل الفاء في خبر الثاني دون الأوّل ؟
أجيب : بأن في ذلك تنبيهاً على أنّ إثابة المؤمنين بالجنان تفضل من الله تعالى، وأن عقاب الكافرين مسبب عن أعمالهم، ولذلك قال :﴿لهم عذاب﴾ ولم يقل : هم في عذاب، ولما كان المؤمنون في حصر مع الكفار رغبهم الله في الهجرة بقوله تعالى :﴿والذين هاجروا
٦٢١
في سبيل الله﴾ أي : فارقوا أوطانهم وعشائرهم في طاعة الله وطلب مرضاته من مكة إلى المدينة ﴿ثم قتلوا﴾ في الجهاد بعد الهجرة، وقرأ ابن عامر بتشديد التاء والباقون بالتخفيف، وألحق به مطلق الموت فضلاً منه بقوله تعالى :﴿أو ماتوا﴾ أي : من غير قتل ﴿ليرزقنّهم الله﴾ أي : الجامع لصفات الكمال ﴿رزقاً حسناً﴾ هو رزق الجنة من حين تفارق أرواحهم أشباحهم ؛ لأنهم أحياء عند ربهم ﴿وإنّ الله﴾ أي : الملك الأعلى القادر على الإحياء كما قدر على الإماتة ﴿لهو خير الرازقين﴾ فإنه يرزق بغير حساب يرزق الخلق عامة البارّ منهم والفاجر.