﴿الله﴾ أي : الذي لا كفء له ﴿يحكم بينكم﴾ أي : بينك مع اتباعك وبينهم ﴿يوم القيامة﴾ الذي هو يوم التغابن ﴿فيما كنتم فيه تختلفون﴾ من أمر الدين ومن نصر ذلك اليوم لم يبال بما حلّ به، فهو كقوله :﴿وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون﴾ (الشعراء، ٢٢٧)
؛ قال البغوي : والاختلاف ذهاب كل واحد من الخصمين إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر.
٦٢٤
﴿ألم تعلم أنّ الله﴾ بجلال عزه وعظيم سلطانه ﴿يعلم ما في السماء والأرض﴾ فلا يخفى عليه شيء ﴿إن ذلك﴾ أي : ما ذكر ﴿في كتاب﴾ كتب فيه كل شيء حكم بوقوعه قبل وقوعه، وكتب جزاؤه وهو اللوح المحفوظ ﴿إن ذلك﴾ أي : علم ما ذكر ﴿على الله﴾ وحده ﴿يسير﴾ أي : سهل ؛ لأنّ علمه مقتضى ذاته المتعلق بكل المعلومات على السواء.
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٢٢
ويعبدون﴾
أي : المشركون على سبيل التجدّد والاستمرار ﴿من دون الله﴾ أي : من أدنى رتبة من رتبه الذي قامت جميع الدلائل على احتوائه على جميع صفات الكمال وتنزيهه عن شوائب النقص ﴿ما لم ينزل به سلطاناً﴾ أي : حجة واحدة من الحجج وهو الأصنام ﴿وما ليس لهم به علم﴾ حصل لهم من ضرورة العقل واستدلاله بالحجة ﴿وما للظالمين﴾ أي : الذين وضعوا التعبد في غير موضعه لارتكابهم لهذا الأمر العظيم الخطر، وأكد النفي واستغرق المنفي بإثبات الجار، فقال تعالى :﴿من نصير﴾ أي : ينصرهم من الله لا مما أشركوه به ولا من غيره فيدفع عنهم عذابه أو يقرّر مذهبهم.
﴿وإذا تتلى﴾ أي : على سبيل التحذير والمبالغة من أيّ تال كان ﴿عليهم آياتنا﴾ أي : من القرآن حال كونها ﴿بينات﴾ لا خفاء فيها عند من له بصيرة في شيء مما دعت إليه من الأصول والفروع ﴿تعرف في وجوه الذين كفروا﴾ أي : تلبسوا بالكفر ﴿المنكر﴾ أي : الإنكار الذي هو منكر في نفسه، فيظهر أثره في وجوههم من الكراهة والعبوس لما حصل لهم من الغيظ، ثم بيّن ما لاح في وجوههم بقوله تعالى :﴿يكادون يسطون﴾ أي : يوقعون السطوة بالبطش والعنف ﴿بالذين يتلون عليهم آياتنا﴾ أي : الدالة على أسمائنا الحسنى وصفاتنا العليا القاضية بوحدانيتنا مع كونها بينات في غاية الوضوح في أنها كلامنا لما فيها من الحكم والبلاغة التي عجزوا عنها، ثم أمر الله تعالى رسوله ﷺ أنّ يقابلهم بالوعيد بقوله تعالى :﴿قل أفأنبئكم﴾ أي : أفأخبركم خبراً عظيماً ﴿بشر من ذلكم﴾ بأكره إليكم من القرآن المتلوّ عليكم، وقوله تعالى :﴿النار﴾ كأنه جواب سائل قال : ما هو ؟
فقيل : النار، أي : هو النار، ويجوز أنّ تكون مبتدأ خبره ﴿وعدها الله الذين كفروا﴾ جزاء لهم فبئس الموعد هي ﴿وبئس المصير﴾ أي : النار، ولما بين تعالى أنه لا حجة لعابد غيره اتبعه بأنّ الحجة قائمة على أنّ ذلك الغير في غاية الحقارة، فقال تعالى منادياً أهل العقل منبهاً تنبيهاً عاماً :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٢٢
﴿يا أيها الناس ضرب مثل﴾ حاصله أنّ من عبدتموه من الأصنام أحقر منكم ﴿فاستمعوا﴾
٦٢٥
أي : أنصتوا ﴿له﴾ وتدبروه، ثم فسره بقوله تعالى :﴿إن الذين تدعون﴾ أي : تعبدون وتدعونهم في حوائجكم وتجعلونهم آلهة ﴿من دون الله﴾ أي : الملك الأعلى من هذه الأصنام التي أنتم بها مغترّون ﴿لن يخلقوا ذباباً﴾ أي : لا قدرة لهم على ذلك في زمن من الأزمان على حال من الأحوال مع صغره فكيف بما هو أكبر منه ﴿ولو اجتمعوا﴾ أي : الذين زعمتموهم شركاء ﴿له﴾ أي : الخلق فهم في هذا أمثالكم.
تنبيه :﴿محل ولو اجتمعوا له﴾ النصب على الحال كأنه قال تعالى : يستحيل أنّ يخلقوا الذباب مشروطاً عليهم اجتماعهم لخلقه وتعاونهم عليه، وهذا من أبلغ ما أنزل الله تعالى في تجهيل قريش واستركاك عقولهم، والشهادة على أنّ الشيطان قد خدعهم بخداعه حيث وصفوا بالإلهية التي تقتضي الاقتدار على المقدورات كلها والإحاطة بالمعلومات عن آخرها صوراً وتماثيل يستحيل منها أنّ تقدر على أقل ما خلقه الله تعالى وأذله وأصغره وأحقره، ولو اجتمعوا لذلك وتساندوا وأدل من ذلك على عجزهم وانتفاء قدرتهم أنّ هذا الخلق الأقل الأذل لو اختطف منهم شيئاً فاجتمعوا على أنّ يستخلصوه منه لم يقدروا كما قال تعالى :﴿وإن يسلبهم الذباب﴾ أي : الذي تقدّم أنهم لا قدرة لهم على خلقه، وهو غاية في الحقارة ﴿شيئاً﴾ أي : من الأشياء جل أو قل ﴿لا يستنقذوه منه﴾ لعجزهم، فكيف يجعلونهم شركاء لله ؟
هذا أمر مستغرب عبر عنه بضرب مثل.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٢٥


الصفحة التالية
Icon