﴿الذين هم﴾ أي : بضمائرهم وظواهرهم ﴿في صلاتهم خاشعون﴾ قال ابن عباس : مخبتون أذلاء، وقيل : خائفون، وقيل : متواضعون، وعن قتادة : الخشوع إلزام موضع السجود، روى الحاكم ـ وقال : صحيح على شرط الشيخين :"أنه ﷺ كان يصلي رافعاً بصره إلى السماء، فلما نزلت هذه الآية رمى ببصره إلى نحو مسجده" أي : موضع سجوده وكان الرجل إذا قام إلى الصلاة هاب الرحمن أنّ يشدّ بصره إلى شيء أو يحدّث بشيء من شأنّ الدنيا، وقيل : هو جمع الهمة لها والإعراض عما سواها، ومن الخشوع أنّ يستعمل الأدب فيتوقى كف الثوب والعبث بجسده وثيابه والتشبيك والالتفات والتمطي والتثاؤب والتغميض وتغطية الفم والسدل والفرقعة والاختصار، وتقليب الحصى ؛ روى الترمذي لكن بسند ضعيف :"أنه ﷺ أبصر رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة فقال : لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه"، ونظر الحسن إلى رجل يعبث بالحصى وهو يقول : اللهم زوّجني الحور العين فقال : بئس الخاطب أنت تخطب وأنت تعبث، وعنه أنه قال : كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع، وعن معاذ بن جبل : من عرف من على يمينه وشماله وهو في الصلاة فلا صلاة له، وروي أنه ﷺ قال :"إنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها"، وقال ﷺ "كم من قائم حظه من قيامه التعب والنصب" وقال :"من لم تنهه الصلاة عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً".
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٣٠
فينبغي للشخص أنّ يحتاط في صلاته ليوقعها على التمام، فإنّ بعض العلماء اختار عدم الإمامة، فقيل له في ذلك، فقال : أخاف إن تركت الفاتحة أنّ يعاتبني الشافعيّ وإن قرأتها أنّ يعاتبني أبو حنيفة فاخترت عدم الإمامة طلباً للخلاص من هذا الخلاف. فإن قيل : لم أضيفت الصلاة إليهم ؟
أجيب : بأنّ الصلاة وصلة بين الله وبين عباده والمصلي هو المنتفع بها وحده، وهي عدّته وذخيرته فهي صلاته، وأما الله تعالى فهو غنيّ متعالٍ عن الحاجة إليها والانتفاع بها.
الصفة الثالثة المذكورة في قوله تعالى :
﴿والذين هم﴾ أي : بضمائرهم التي تتبعها ظواهرهم
٦٣١
﴿عن اللغو﴾ قال ابن عباس : عن الشرك ﴿معرضون﴾ أي : تاركون، وقال الحسن : عن المعاصي، وقال الزجاج : هو كل باطل ولهو وما لا يحمد من القول والفعل، وقيل : هو كل ما لا يعني الشخص من قول أو فعل وهو ما يستحق أنّ يسقط ويلغى، فمدحهم الله تعالى بأنهم معرضون عن هذا اللغو والإعراض عنه هو بأنّ لا يفعله ولا يرضى به ولا يخالط من يأتيه كما قال تعالى :﴿وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراماً﴾ أي : إذا سمعوا الكلام القبيح أكرموا أنفسهم عن الدخول فيه.
الصفة الرابعة المذكورة في قوله تعالى :
﴿والذين هم للزكاة فاعلون﴾ أي : مؤدون.
تنبيه : الزكاة اسم مشترك بين عين ومعنى فالعين هو القدر الذي يخرجه المزكي من النصاب إلى المستحق والمعنى فعل المزكي الذي هو التزكية، وهو المراد هنا ؛ لأنه ما من مصدر إلا ويعبر عن معناه بالفعل، ويقال لمحدثه : فاعل، تقول للضارب : فاعل الضرب، وللقاتل : فاعل القتل، وللمزكي : فاعل التزكية، ويجوز أنّ يراد بالزكاة العين ويقدر مضاف محذوف وهو الأداء، وقيل : الزكاة هنا هي العمل الصالح ؛ لأنّ هذه السورة مكية وإنما فرضت الزكاة بالمدينة سنة اثنتين من الهجرة قال البقاعي : والظاهر أنّ التي فرضت بالمدينة هي ذات النصب، وأنّ أصل الزكاة كان واجباً بمكة كما قال تعالى في سورة الأنعام :﴿وآتوا حقه يوم حصاده﴾ (الأنعام، ١٤١)
انتهى.
الصفة الخامسة المذكورة في قوله تعالى :
﴿والذين هم لفروجهم﴾ في الجماع ومقدّماته ﴿حافظون﴾ أي : دائماً لا يتبعونها شهوتها، والفرج اسم لسوأة الرجل والمرأة، وحفظه التعفف عن الحرام، ثم استثنى من ذلك قوله تعالى :
﴿إلا على أزواجهم﴾ اللاتي استحقوا أبضاعهنّ بعقد النكاح، ولعلوّ الذكر عبر بعلى ونظيره كان زياد على البصرة أي : والياً عليها، ومنه قولهم : فلانة تحت فلان، ومن ثم سميت المرأة فراشاً، وقيل : على بمعنى من، وجرى على ذلك البغوي ﴿أو ما ملكت إيمانهم﴾ رقابه من الإماء. فإن قيل : هلا قال تعالى : أو من ملكت ؟
أجيب : بأنه إنما عبر بما لقرب الإماء مما لا يعقل لنقصهن عن الحرائر الناقصات عن الذكر ولأنه اجتمع فيها وصفان : أحدهما : الأنوثة وهي مظنة نقصان العقل والأخرى : كونها بحيث تباع وتشترى كسائر السلع، قال البغوي : والآية في الرجال خاصة ؛ لأنّ المرأة لا يجوز لها أنّ تستمتع بفرج مملوكها ﴿فإنهم غير ملومين﴾ على ذلك إذا كان على وجه أذن فيه الشرع دون الإتيان في غير المأتي، وفي حال الحيض أو النفاس أو نحو ذلك كوطء الأمة قبل الاستبراء، فإنه حرام ومن فعله فإنه ملوم.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٣٠