فمن ابتغى} أي : طلب متعدياً ﴿وراء ذلك﴾ العظيم المنفعة الذي وقع استثناؤه بزنا أو لواط أو استمناء بيد أو بهمية أو غيرها ﴿فأولئك﴾ المبعدون من الفلاح ﴿هم العادون﴾ أي : المبالغون في تعدّي الحدود، عن سعيد بن جبير قال : عذب الله تعالى أمّة كانوا يعبثون بمذاكيرهم، أي : في أيديهم، وقيل : يحشرون وأيديهم حبالى.
الصفة السادسة : المذكورة في قوله تعالى :
﴿والذين هم لأماناتهم﴾ أي : في الفروج وغيرها سواء كانت بينهم وبين الله كالصلاة والصيام، أو بينهم وبين الخلق كالودائع والبضائع، أو في المعاني الباطنة كالإخلاص والصدق ﴿وعهدهم راعون﴾ أي : حافظون بالقيام والرعاية والإصلاح، والعهد ما عقده الشخص على نفسه فيما يقربه إلى ربه، ويقع أيضاً على ما أمر الله تعالى به كقوله تعالى :﴿الذين قالوا إن الله عهد إلينا﴾ (آل عمران، ١٨٣)
٦٣٢
تنبيه : سمي الشىء المؤتمن عليه والمعاهد عليه أمانة وعهداً، ومنه قوله تعالى :﴿إنّ الله يأمركم أنّ تؤدّوا الأمانات إلى أهلها﴾ (النساء، ٥٨)، وقال تعالى :﴿وتخونوا أماناتكم﴾ (الأنفال، ٣٧)، وإنما تؤدّى العيون لا المعاني ويخان المؤتمن عليه لا الأمانة في نفسها. وقرأ ابن كثير : لأمانتهم بغير ألف بين النون والتاء على الإفراد لا من الإلباس أو لأنها في الأصل مصدر، والباقون بالألف على الجمع.
الصفة السابعة المذكورة في قوله تعالى :
﴿والذين هم على صلواتهم﴾ التي وصفوا بالخشوع فيها ﴿يحافظون﴾ أي : يواظبون عليها ولا يتركون شيئاً من مفروضاتها ولا مسنوناتها يجتهدون في كمالاتها جهدهم، ويؤدّونها في أوقاتها.
فإن قيل : كيف كرّر الصلاة أولاً وآخراً ؟
أجيب : بأنهما ذكران مختلفان فليس بمكرر وصفوا أولاً بالخشوع في صلاتهم وآخر بالمحافظة عليها وذلك أنّ لا يسهوا عنها ويؤدوها في أوقاتها، ويقيموا أركانها ويوطنوا أنفسهم بالاهتمام بها وبما ينبغي أنّ تتم به أوصافها، وأيضاً فقد وحدت أولاً ليفاد الخشوع في جنس الصلاة أيّ صلاة كانت وجمعت آخراً على غير قراءة حمزة والكسائي، فإنّ غيرهما قرأ بالجمع، وأمّا هما فقرأا بالإفراد لتفاد المحافظة على أعدادها وهي الصلوات الخمس والسنن المرتبة مع كل صلاة، وصلاة الجمعة وصلاة الجنازة والعيدين والكسوفين والاستسقاء، والوتر والضحى وصلاة التسبيح، وصلاة الحاجة، وغيرها من النوافل، ولما ذكر تعالى مجموع هذه الصفات العظيمة فخم جزاءهم فقال تعالى :
﴿أولئك﴾ أي : البالغون من الإحسان أعلى مكان ﴿هم الوارثون﴾ أي : المستحقون لهذا الوصف، فيرثون منازل أهل الجنة في الجنة روي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ "ما منكم من أحد إلا وله منزلان، منزل في الجنة ومنزل في النار، فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله" وقال مجاهد : لكل واحد منزلان، منزل في الجنة ومنزل في النار، فأمّا المؤمن فيبني منزله الذي له في الجنة ويهدم منزله الذي له في النار، وأما الكافر فيهدم منزله الذي في الجنة ويبني منزله الذي له في النار"، وقال بعض المفسرين : معنى الوراثة هو أنّ يؤول أمرهم إلى الجنة وينالوها كما يؤول أمر الميراث إلى الوارث.
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٣٠
الذين يرثون الفردوس﴾
وهو أعلى الجنة، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنّ رسول الله ﷺ قال :"في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، منها تفجر أنهار الجنة الأربعة ومن فوقها يكون عرش الرحمن، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس" اللهمّ بجاه محمد ﷺ أنّ تجعلنا ووالدينا وأحبابنا من أهله ﴿هم فيها خالدون﴾ أي : لا يخرجون منها ولا يموتون وأنث الفردوس بقوله تعالى :﴿فيها﴾، على تأنيث الجنة، وهو البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر، روي "أنّ الله تعالى بنى جنة الفردوس لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وجعل خلالها المسك الإذفر ـ وفي رواية : ولبنة من مسك مذرى ـ وغرس فيها من جيد الفاكهة وجيد الريحان"، وروي "أنّ الله تعالى خلق ثلاثة أشياء بيده خلق آدم بيده وكتب التوراة
٦٣٣
بيده، وغرس الفردوس بيده، ثم قال : وعزتي لا يدخلها مدمن خمر ولا ديوث"، والمراد أنّ الله تعالى لم يكل ذلك إلى غيره من ملك من الملائكة، والجنة مخلوقة الآن ؛ قال تعالى :﴿أعدت للمتقين﴾ (آل عمران، ١٣٣)، ولما أمر سبحانه وتعالى بالعبادات في هذه الآيات والاشتغال بعبادة الله لا يصح إلا بعد معرفة الله تعالى عقبها بذكر ما يدل على وجوده واتصافه بصفات الجلال والوحدانية فذكر من الدلائل أنواعاً :
الأول : الاستدلال بتقليب الإنسان في أدوار الخلقة وأدوار الفطرة، وهي تسع مراتب.
الأولى : قوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٣٠


الصفحة التالية
Icon