﴿ولقد خلقنا الإنسان﴾ أي : آدم ﴿من سلالة﴾ هي من سللت الشيء من الشيء أي : استخرجته منه، وهو خلاصته، وقال ابن عباس : السلالة صفرة الماء، وقوله تعالى :﴿من طين﴾ متعلق بسلالة، وقيل : المراد بالإنسان هذا النوع ؛ والسلالة قال مجاهد : من بني آدم، وقال عكرمة : هو الماء يسيل من الظهر، والعرب تسمي النطفة سلالة، والولد سليلاً وسلالة ؛ لأنهما مسلولان منه.
المرتبة الثانية : قوله تعالى :
﴿ثم جعلناه﴾ أي : نسله، فحذف المضاف ﴿نطفة﴾ أي : منياً من الصلب والترائب بأنّ خلقناه منها ﴿في قرار مكين﴾ أي : مستقر حصين هو الرحم.
تنبيه : مكين في الأصل صفة للمستقر في الرحم وصف به المحل للمبالغة كما عبّر عنه بالقرار.
المرتبة الثالثة : قوله تعالى :
﴿ثم﴾ أي : بعد تراخ في الزمان، وعلوّ في المرتبة والعظمة ﴿خلقنا﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿النطفة﴾ أي : البيضاء جداً ﴿علقة﴾ حمراء دماً غليظاً.
شديد الحمرة جامداً غليظاً، المرتبة الرابعة : قوله تعالى :﴿فخلقنا﴾ أي : بما لنا من القوة والقدرة العظيمة ﴿العلقة مضغة﴾ أي : قطعة لحم قدر ما يمضغ لا شكل فيها ولا تخطيط.
المرتبة الخامسة : قوله تعالى :﴿فخلقنا المضغة﴾ أي : بتقليبها بما شئنا لها من الحرارة والأمور اللطيفة الغامضة ﴿عظاما﴾ من رأس ورجلين وما بينهما.
المرتبة السادسة : قوله تعالى :﴿فكسونا﴾ بما لنا من قوة الاختراع تلك ﴿العظام لحماً﴾ بما ولدنا منها ترجيعاً لحالها قبل كونها عظاماً فسترنا تلك العظام، وقويناها وشددناها بالروابط والأعصاب. وقرأ ابن عامر وأبو بكر : عظاماً، والعظام بفتح العين وإسكان الظاء من غير ألف على التوحيد اكتفاء باسم الجنس عن الجمع، والباقون بكسر العين وفتح الظاء وألف بعدها على الجمع ؛ قال الجلال المحلي : وخلقنا في المواضع الثلاثة بمعنى صيرنا.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٣٤
المرتبة السابعة : قوله تعالى :﴿ثم أنشأناه﴾ أي : هذا المحدث عنه بعظمتنا ﴿خلقاً آخر﴾ أي : خلقاً مبايناً للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعله حيواناً، وكان جماداً وناطقاً، وكان أبكم وسميعاً، وكان أصم وبصيراً وكان أكمه وأودع ظاهره وباطنه بل كل عضو من أعضائه وكل جزء من أجزائه عجائب فطره وغرائب حكمه لا تدرك بوصف الواصف، ولا تبلغ بشرح الشارح، وثم لما بين الخلقين من التفاوت ؛ قال الزمخشري : وقد احتج به أبو حنيفة رحمه الله فيمن غصب
٦٣٤
بيضة فأفرخت عنده، فقال : يضمن البيضة ولا يرد الفرخ ؛ لأنه خلق آخر سوى البيضة، اه. ولما كان هذا التفصيل لتطوير الإنسان سبباً لتعظيم الخالق ؛ قال تعالى :﴿فتبارك الله﴾ أي : تنزه عن كل شائبة نقص وحاز جميع صفات الكمال، وأشار إلى جمال الإنسان بقوله تعالى :﴿أحسن الخالقين﴾ أي : المقدرين، ومميز أحسن محذوف أي : خلقا. روي "عن عمر رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله ﷺ لما بلغ قوله ﴿خلقاً آخر﴾ قال : فتبارك الله أحسن الخالقين" وروي "أنّ عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب لرسول الله ﷺ فنطق بذلك قبل إملائه فقال له رسول الله ﷺ اكتب هكذا فنزلت فقال عبد الله : إن كان محمد نبياً يوحى إليه فأنا نبي يوحى إليّ"، فلحق بمكة كافراً، ثم أسلم يوم الفتح، وروى "سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : لما نزلت هذه الآية قال عمر بن الخطاب : فتبارك الله أحسن الخالقين فقال رسول الله ﷺ هكذا أنزلت يا عمر وكان عمر يقول : وافقني ربي في أربع : الصلاة خلف المقام، وضرب الحجاب على النسوة، وقولي لهن أو ليبدلن الله خيراً منكن فنزل قوله تعالى :﴿عسى ربه إن طلقكن﴾ (التحريم، ٥)
الآية، والرابع : قلت : فتبارك الله أحسن الخلقين، فقال : هكذا نزل" قال العارفون : هذه الواقعة كانت سبب السعادة لعمر والشقاوة لعبد الله بن سعد بن أبي سرح فإنه قيل : إنه مات كافراً ؛ قال الله تعالى :﴿يضل به كثيراً﴾ (البقرة، ٢٦)
ويهدي به كثيراً، المرتبة الثامنة : قوله تعالى :
﴿ثم إنكم بعد ذلك﴾ أي : الأمر العظيم من الوصف بالحياة والمد فى العمر في آجال متفاوتة ما بين طفل ورضيع ومحتلم شديد وشاب نشيط وكهل عظيم وشيخ هرم إلى ما بين ذلك من شؤون لا يحيط بها إلا اللطيف الخبير ﴿لميتون﴾ أي : لصائرون إلى الموت لا محالة، ولذلك ذكر النعت الذي للثبوت وهو ميت دون اسم الفاعل، وهو مائت، فإنه للحدوث لا للثبوت.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٣٤
المرتبة التاسعة : قوله تعالى :﴿ثم إنكم يوم القيامة﴾ أي : الذي تجمع فيه جميع الخلائق ﴿تبعثون﴾ للحساب والجزاء.
النوع الثاني : من الدلائل الاستدلال بخلق السموات وهو قوله تعالى :


الصفحة التالية
Icon