﴿ولقد خلقنا فوقكم﴾ في جميع جهة الفوق في ارتفاع لا تدركونه حق الإدراك ﴿سبع طرائق﴾ أي : سموات جمع طريقة ؛ لأنها طرق الملائكة ومتعلقاتهم، وقيل : الأفلاك لأنها طرائق الكواكب فيها مسيرها، وقيل : لأنها طرق بعضها فوق بعض كطارقة النعل، وكل شيء فوقه مثله، فهو طريقة ﴿وما كنا﴾ أي : بمالنا من العظمة ﴿عن الخلق﴾ أي : الذي خلقناه تحتها ﴿غافلين﴾ أي : أنّ تسقط عليهم فتهلكهم بل نمسكها كآية ويمسك السماء أنّ تقع على الأرض إلا بإذنه ولا مهملين أمرها بل نحفظها عن الزوال والاختلاف وتدبير أمرها حتى تبلغ منتهى أمرها، وما قدر لها من الكمال حسب ما اقتضته الحكمة وتعلقت به المشيئة.
النوع الثالث من الدلائل : الاستدلال بنزول الأمطار وكيفية تأثيرها في النبات، وهو قوله
٦٣٥
تعالى :
﴿وأنزلنا من السماء﴾ أي : من جرمها وهو ظاهر اللفظ وعليه أكثر المفسرين أو من السحاب وسماه سماء لعلوه ﴿ماء بقدر﴾ أي : بقدر ما يكفيهم لمعاشهم في الزرع والغرس والشرب وأنواع المنفعة، ويسلمون معه من المضرة إذ لو كان فوق ذلك لأغرقت البحار الأقطار، ولو كان دون ذلك لأدّى إلى جفاف النبات والأشجار ﴿فأسكناه﴾ أي : فجعلناه ثابتاً مستقراً ﴿في الأرض﴾ كقوله تعالى :﴿فسلكه ينابيع في الأرض﴾ (الزمر، ٢١)، و"عن ابن عباس عن النبي :ﷺ أنّ الله تعالى أنزل من الجنة خمسة أنهار سيحون نهر الهند، وجيحون نهر بلخ، ودجلة والفرات نهرا العراق، والنيل نهر مصر أنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض، وجعل فيها منافع للناس من أصناف معايشهم، فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله تعالى جبريل فرفع من الأرض القرآن والعلم كله والحجر الأسود من ركن البيت، ومقام إبراهيم وتابوت موسى بما فيه، وهذه الأنهار الخمسة فيرفع كل ذلك إلى السماء" وذلك قوله تعالى :﴿وإنا على ذهاب به لقادرون﴾ قدرة هي في نهاية العظمة، فإنّا كما قدرنا على إيجاده واختراعه نقدر على رفعه وإزالته وزواله، فإذا رفعت هذه الأشياء كلها من الأرض فقد أهلها خير الدين والدنيا ؛ قال البغوي : وروى هذا الحديث الإمام الحسن بن سفيان عن عثمان بن سعيد عن سابق الإسكندري عن سلمة بن علي عن مقاتل بن حبان.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٣٤
تنبيه : في تنكير ذهاب إيماء إلى تكثير طرقه، وفيه إيذان باقتدار المذهب وأنه لا يتعايا عليه شيء إذا أراده، وهو أبلغ في الإيعاد من قوله تعالى :﴿قل أرأيتم إنّ أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين﴾ (الملك، ٣٠)، فعلى العباد أنّ يستعظموا النعمة في الماء ويقيدوها بالشكر الدائم، ويخافوا نفادها إذا لم تشكر ثم إنه تعالى سبحانه لما نبه على عظم نعمته بخلق الماء ذكر بعده هذه النعمة الحاصلة من الماء بقوله تعالى :
﴿فأنشأنا﴾ أي : فأخرجنا وأحيينا ﴿لكم﴾ خاصة لا لنا ﴿به﴾ أي : بذلك الماء الذي جعلنا منه كل شيء حي ﴿جنات﴾ أي : بساتين ﴿من نخيل وأعناب﴾ صرح بهذين الصنفين لشرفهما ولأنهما أكثر ما عند العرب من الثمار، وسمى الأوّل باسم شجرته لكثرة ما فيها من المنافع المقصودة بخلاف الثاني، فإنه المقصود من شجرته، وأشار إلى غيرهما بقوله تعالى :﴿لكم﴾ أي : خاصة ﴿فيها﴾ أي : الجنات ﴿فواكه كثيرة﴾ تتفكهون بها ﴿ومنها﴾ أي : ومن الجنات من ثمارها وزروعها ﴿تأكلون﴾ رطباً ويابساً وتمراً وزبيباً، وقوله تعالى :
﴿وشجرة﴾ عطف على جنات أي : وأنشأنا لكم شجرة أي : زيتونة ﴿تخرج من طور سيناء﴾ وهو الجبل الذي كلم الله تعالى عليه موسى بن عمران عليه السلام بين مصر وإيلة، وقيل : بفلسطين، وفي رواية أخرى : طور سينين، ولا يخلو إما أنّ يضاف فيه الطور إلى بقعة اسمها سيناء أو سينين، وإما أنّ يكون اسماً للجبل مركباً من مضاف ومضاف إليه كامرىء القيس، وبعلبك فيمن أضاف، فمن كسر سين سيناء وهو نافع وابن كثير وأبو عمرو، فقد منع الصرف للتعريف والعجمة والتأنيث لأنها بقعة، وفعلاء لا تكون ألفه للتأنيث كعلباء وحرباء، ومن قرأ بفتح السين وهم الباقون
٦٣٦
لم يصرفه ؛ لأنّ الألف للتأنيث كصحراء ؛ قال مجاهد : معناه البركة أي : من جبل مبارك، وقال قتادة : معناه الحسن أي : الجبل الحسن، وقال الضحاك : هو بالقبطية ومعناه الحسن، وقال عكرمة : بالحبشية، وقال مقاتل : كل جبل فيه أشجار مثمرة، فهو سيناء وسينين بلغة القبط.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ﴿تنبت﴾ بضم التاء الفوقية، و كسر الباء الموحدة من الرباعي، والباقون بفتح الفوقية وضم الموحدة من الثلاثي فقوله تعالى :﴿بالدهن﴾ تكون الباء على الأول زائدة، وعلى الثاني معدية قال المفسرون : وإنما أضافها الله تعالى إلى هذا الجبل ؛ لأنّ منه تشعبت في البلاد وانتشرت ؛ ولأنّ معظمها هناك.