قال بعض المفسرين : وإنما عرف الدهن ؛ لأنه أجل الأدهان وأكملها، وهو في الأصل مائع لزج خفيف يتقطع ولا يختلط بالماء الذي هو أصله فيسرج ويدهن به، وقوله تعالى :﴿وصبغ للآكلين﴾ عطف على الدهن أي : إدام يصبغ اللقمة بغمسها فيه، وهو الزيت ؛ قيل : إنها أول شجرة نبتت بعد الطوفان ووصفها الله تعالى بالبركة في قوله تعالى :﴿يوقد من شجرة مباركة﴾ (النور، ٣٥)
النوع الرابع من الدلائل : الاستدلال بأحوال الحيوانات، وهو قوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٣٤
٦٣٧
﴿وإن لكم في الأنعام﴾ وهي الإبل والبقر والغنم ﴿لعبرة﴾ عظيمة تعتبرون بها وتستدلون بها على البعث وغيره ﴿نسقيكم مما في بطونها﴾ أي : اللبن نجعله لكم شراباً نافعاً للبدن موافقاً للشهوة تلتذون به من بين الفرث والدم ﴿ولكم فيها﴾ أي : جماعة الأنعام، وقدم الجار تعظيماً لمنافعها حتى كأنّ غيرها عدم ﴿منافع كثيرة﴾ باستسلامها لما يراد منها مما لا يتيسر من أصغر منها وبأولادها وأصوافها وأوبارها وأشعارها وغير ذلك من آثارها ﴿ومنها تأكلون﴾ أي : وكما تنتفعون بها وهي حية تنتفعون بها بعد الذبح أيضاً بسهولة من غير امتناع مّا من شيء من ذلك ولو شاء لمنعها وسلطها عليكم، ولو شاء لجعل لحمها لا ينضج أو جعله قذراً لا يؤكل، ولكنه بقدرته وعلمه هيأها لما ذكر وذللها.
﴿وعليها﴾ أي : الأنعام الصالحة للحمل وهي الإبل والبقر، وقيل : المراد الإبل خاصة ؛ لأنها هي المحمول عليها في العادة وقرنها بالفلك التي هي السفن في قوله تعالى :﴿وعلى الفلك تحملون﴾ لأنها سفائن البر، فكما يحمل على الفلك في البحر فيحمل على هذه في البر قال ذو الرمة في المعنى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٣٧
سفينة بر تحت خدي زمامها
قال الزمخشري : يريد صيدحه أي : ناقته ؛ لأنّ اسمها كان صيدح قال :
*رأيت الناس ينتجعون غيثاً
** فقلت لصيدح انتجعي بلالا
يريد بلال بن أبي بردة الأشعري والي الكوفة، ولما بيّن سبحانه وتعالى دلائل التوحيد أردفها بذكر القصص كما هو العادة في سائر السور مبتدئاً بقصة نوح عليه السلام، فقال تعالى :
﴿ولقد أرسلنا﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿نوحاً﴾ وهو الأب الثاني بعد آدم عليهما الصلاة والسلام، وكان اسمه يشكر، وسمي نوحاً لوجوه : أحدها : لكثرة ما ناح على نفسه حين دعا على قومه بالهلاك، فأهلكهم الله تعالى بالطوفان، فندم على ذلك، ثانيها : لمراجعته ربه في شأنّ ابنه، ثالثها : أنه مرّ بكلب مجذوم فقال له : اخسأ يا قبيح فعوتب على ذلك. ﴿إلى قومه﴾ وهم جميع أهل الأرض لتواصل ما بينهم لكونهم على لغة واحدة محصورين لا أنه أرسل إلى الخلق كافة ؛ لأنّ ذلك من خصائص نبينا محمد ﷺ وعلى جميع الأنبياء ﴿فقال﴾ أي : فتسبب عن ذلك أنّ قال ﴿يا قوم﴾ ترفقاً بهم ﴿اعبدوا الله﴾ وحده لأنه إلهكم وحده لاستحقاقه لجميع خلال الكمال، واستأنف على سبيل التعليل قوله :﴿ما لكم من إله﴾ أي : معبود بحق ﴿غيره﴾ فلا تعبدوا سواه ﴿أفلا تتقون﴾ أي : أفلا تخافون عقوبته إن عبدتم غيره، وقرأ الكسائي بكسر الراء والهاء، والباقون بضمهما.
﴿فقال﴾ أي : فتسبب عن ذلك أنّ كذبوه بأنّ قال ﴿الملأ﴾ أي : الأشراف الذي تملأ رؤيتهم الصدور عظمة ﴿الذين كفروا من قومه﴾ لعوامهم ﴿ما هذا﴾ أي : نوح عليه السلام ﴿إلا بشر مثلكم﴾ أي : فلا
٦٣٨
يعلم ما لا تعلمون فأنكروا أنّ يكون بعض البشر نبياً، ولم ينكروا أنّ يكون بعض الطين إنساناً وبعض الماء علقة، وبعض العلقة مضغة إلى آخره، فكأنه قيل : ما حمله على ذلك فقالوا :﴿يريد أنّ يتفضل﴾ يتكلف الفضل بادعاء مثل هذا ﴿عليكم﴾ لتكونوا أتباعاً له ولا خصوصية له دونكم ﴿ولو شاء الله﴾ أي : الملك الأعلى الإرسال إليكم وعدم عبادة غيره ﴿لأنزل﴾ كذلك ﴿ملائكة﴾ رسلاً بإبلاغ الوحي إلينا قال الزمخشري : وما أعجب شأنّ الضلال لم يرضوا للنبوة ببشر، وقد رضوا للألوهية بحجر ﴿ما سمعنا بهذا﴾ أي : الذي دعا إليه نوح من التوحيد ﴿في آبائنا الأولين﴾ أي : الأمم الماضية.
﴿إن﴾ أي : ما ﴿هو إلا رجل به جنة﴾ أي : جنون ولأجله يقول ما يدعيه ﴿فتربصوا به﴾ أي : فتسبب عن الحكم بجنونه إنا نأمركم بالكف عنه لأنه لا حرج على جنونه ﴿حتى﴾ أي : إلى ﴿حين﴾ لعله يفيق أو يموت، فكأنه قيل : فما قال ؟
فقيل :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٣٧
قال﴾ عندما أيس من فلاحهم ﴿رب انصرني﴾ أي : أعني عليهم ﴿بما كذبون﴾ أي : بسبب تكذيبهم لي فإن تكذيب الرسول استخفاف بالمرسل.