﴿فأوحينا﴾ أي : فتسبب عن دعائه أنّ أوحينا ﴿إليه أنّ اصنع الفلك﴾ أي : السفينة ﴿بأعيننا﴾ أي : إنه لا يغيب عنا شيء من أمرك ولا من أمرهم، وأنّ تعرف قدرتنا على كل شيء، فثق بحفظنا ولا تخف شيئاً من أمرهم، روي أنه لما أوحي إليه أنّ يصنعها على مثال جؤجؤ الطائر ؛ قال الجوهري : جؤجؤ الطائر والسفينة صدرهما والجمع الجآجىء. ولما كان لا يعلم الصنعة قال تعالى :﴿ووحينا﴾ أي : وأمرنا وتعليمنا كيف تصنع، فإنّ جبريل علمه عمل السفينة، ووصف كيفية اتخاذها له، وقد تقدم الكلام عليها مستوفى في سورة هود ﴿فإذا جاء أمرنا﴾ أي : بالهلاك عقب فراغك منها أو بالركوب ﴿وفار التنور﴾ قال ابن عباس : وجه الأرض، وفي القاموس : التنور الكانون يخبز فيه، ووجه الأرض، وعن قتادة : أنه أشرف موضع في الأرض أي : أعلاه، وعن علي : طلع الفجر، وعن الحسن : أنه الموضع المنخفض من السفينة الذي يسيل الماء إليه، وقيل : هو مثل كقولهم : حمي الوطيس، والأقرب كما قال الرازي، وعليه أكثر المفسرين، هو التنور المعروف بتنور الخباز، فيكون له فيه آية، روي أنه قيل لنوح : إذا رأيت الماء يفور في التنور فاركب أنت ومن معك في السفينة، فلما نبع الماء من التنور أخبرته امرأته، فركب وقيل : كان تنور آدم، وكان من حجارة، فصار إلى نوح، واختلف في مكانه، فعن الشعبي في مسجد الكوفة عن يمين الداخل مما يلي باب كندة، وكان نوح عمل السفينة وسط المسجد، وقيل : بالشام بموضع يقال له عين وردة، وقيل : بالهند.
وقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى من الهمزتين المفتوحتين من كلمتين، وحقق الأولى وسهل الثانية ورش وقنبل ﴿فاسلك﴾ أي : أدخل ﴿فيها﴾ أي : السفينة ﴿من كل زوجين، ﴾ من الحيوان ﴿اثنين﴾ ذكراً وأنثى، وقرأ حفص بتنوين اللام من كل أي : من كل نوع زوجين، فزوجين مفعول واثنين تأكيد، و الباقون بغير تنوين، فاثنين مفعول، ومن متعلق باسلك، وفي القصة إن الله تعالى حشر لنوح السباع والطير وغيرهما، فجعل يضرب يده في كل جمع، فتقع يده اليمنى على الذكر واليسرى على الأنثى فيحملهما في السفينة، وروي أنه لم يحمل إلا ما يلد ويبيض ﴿وأهلك﴾ أي : وأهل بيتك من زوجك وأولادك ﴿إلا من سبق عليه﴾ لا له ﴿القول منهم﴾
٦٣٩
بالهلاك وهو زوجته وولده كنعان بخلاف سام وحام ويافث، فحملهم وزوجاتهم الثلاثة، وفي سورة هود ﴿ومن آمن وما آمن معه إلا قليل﴾ (هود، ٤٠)، قيل : كانوا ستة رجال ونساءهم، وقيل : جميع من كان في السفينة ثمانية وسبعون نصفهم رجال ونصفهم نساء ﴿ولا تخاطبني﴾ أي : بالسؤال في النجاة ﴿في الذين ظلموا﴾ أي : كفروا، ثم علل ذلك بقوله تعالى :﴿إنهم مغرقون﴾ أي : قد حتم القضاء عليهم لظلمهم بالإشراك والمعاصي، ومن هذا شأنه لا يشفع له، فإنه تعالى بعد أنّ أملى لهم الدهر المتطاول فلم يزيدوا إلا ضلالاً ولزمتهم الحجة البالغة لم يبق إلا أنّ يجعلوا عبرة للمعتبرين ونحن نكرمك عن سؤال لا يقبل، ولقد بالغ سبحانه وتعالى حيث اتبع النهي عنه الأمر بالحمد على هلاكهم والنجاة منهم بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٣٧
فإذا استويت﴾ أي : اعتدلت ﴿أنت ومن معك﴾ أي : من البشر وغيرهم ﴿على الفلك﴾ ففرغت من امتثال الأمر بالحمل ﴿فقل الحمد لله﴾ أي : الذي لا كفء له ؛ لأنه مختص بصفات الحمد ﴿الذي نجانا﴾ بحملنا فيه ﴿من القوم﴾ أي : الأعداء الأغبياء ﴿الظالمين﴾ أي : الكافرين لقوله تعالى :﴿فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين﴾ (الأنعام، ٤٥)
تنبيه : إنما قال تعالى : قل، ولم يقل : قولوا ؛ لأنّ نوحاً عليه السلام كان لهم نبياً وإماماً فكان قوله قولاً لهم مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوّة وإظهار كبرياء الربوبية، وإن رتبة تلك المخاطبة لا يترقى إليها إلا ملك أو نبي، ولما أشار له بهذا القول إلى السلامة بالحمل أتبعه بالإشارة إلى الوعد بإسكان الأرض بقوله تعالى :
﴿وقل رب أنزلني﴾ في الفلك ثم في الأرض، وفي كل منزل تنزلني به وتورثني إياه ﴿منزلاً مباركاً﴾ أي : يبارك له فيه ويعطيه الزيادة في خير الدارين، وقرأ أبو بكر بفتح الميم وكسر الزاي أي : مكان النزول، والباقون بضم الميم وفتح الزاي مصدر أو اسم مكان، ثم إن الله تعالى أمره أنّ يشفع الدعاء بالثناء عليه المطابق لمسألته وهو قوله تعالى :﴿وأنت خير المنزلين﴾ ما ذكر لأنك تكفي نزيلك كل ملم وتعطيه كل أمر، ولما كانت هذه القصة من أغرب القصص حث على تدبرها بقوله تعالى :