﴿إن في ذلك﴾ أي : الأمر العظيم من أمر نوح والسفينة وإهلاك الكفار ﴿لآيات﴾ أي : دلالات على قدرة الله تعالى وصدق الأنبياء في أنّ المؤمنين هم المفلحون وأنهم الوارثون للأرض بعد الظالمين، وإن عظمت شوكتهم واشتدت صولتهم ﴿وإن كنا﴾ بما لنا من العظمة والوصف الثابت الدال على تمام القدرة ﴿لمبتلين﴾ أي : فاعلين فعل الخبير المختبر لعبادنا بإرسال الرسل ليظهر في عالم الشهادة الصالح منهم من غيره، ثم نبتلي الصالحين منهم بما يزيد حسناتهم وينقص سيئاتهم ويعلي درجاتهم، ثم نجعل لهم العاقبة كما قال تعالى :﴿والعاقبة للمتقين﴾ (الأعراف، ١٢٨)
تنبيه : إن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن واللام هي الفارقة.
القصة الثانية : قصة هود، وقيل : صالح عليهما السلام المذكورة في قوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٣٧
﴿ثم أنشأنا﴾ أي : أحدثنا وأحيينا ﴿من بعدهم﴾ أي : من بعد إهلاكهم ﴿قرناً﴾ أي : قوماً ﴿آخرين﴾ هم عاد قوم هود، وقيل : ثمود قوم صالح.
﴿فأرسلنا﴾ أي : فتعقب إنشاءنا لهم وتسبب عنه أنا أرسلنا ﴿فيهم رسولاً منهم﴾ هو هود،
٦٤٠
وقيل : صالح ؛ قال البغوي : والأوّل هو الأظهر وهو المروي عن ابن عباس ويشهد له حكاية الله قول هود :﴿واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح﴾ (الأعراف، ٦٩)
ومجيء قصة هود على أثر قصة نوح في سورة الأعراف وسورة هود والشعراء، ثم بين تعالى ما أرسل به بقوله تعالى :﴿أن اعبدوا الله﴾ أي : وحدوه لأنه لا مكافىء له، ثم دل على الاستغراق بقوله تعالى :﴿ما لكم من إله غيره أفلا تتقون﴾ أي : هذه الحالة التي أنتم عليها مخافة عقابه فتؤمنون، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر والكسائي بضم النون في الوصل والباقون بكسرها، والقراءة في غيره ذكرت قريباً.
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٤٠
وقال الملأ﴾
أي : الأشراف التي تملأ رؤيتهم الصدور ﴿من قومه الذين كفروا﴾ أي : غطوا ما يعرفون من أدلة التوحيد والانتقام من المشركين ﴿وكذبوا بلقاء الآخرة﴾ أي : بالمصير إليها ﴿وأترفناهم﴾ أي : والحال أنا بما لنا من العظمة نعمناهم ﴿في الحياة الدنيا﴾ بالأموال والأولاد وكثرة السرور يخاطبون أتباعهم ﴿ما هذا﴾ أشاروا إليه تحقيراً له عند المخاطبين ﴿إلا بشر مثلكم﴾ في الخلق والحال، ثم وصفوه بما يوهم المساواة لهم في كل وصف فقالوا :﴿يأكل مما تأكلون منه﴾ أي : من طعام الدنيا ﴿ويشرب مما تشربون﴾ أي : من شرابها فكيف يكون رسولاً دونكم، وقولهم :
﴿ولئن﴾ اللام لام قسم أي : والله لئن ﴿أطعتم بشراً مثلكم﴾ أي : فيما يأمركم به ﴿إنكم إذاً﴾ أي : إن أطعتموه ﴿لخاسرون﴾ أي : مغبونون لكونكم فضلتم مثلكم عليكم بما يدعيه، ثم بينوا إنكارهم بقولهم :
﴿أيعدكم أنكم إذا متم﴾ ففارقت أرواحكم أجسادكم ﴿وكنتم﴾ أي : وكانت أجسادكم ﴿تراباً﴾ باستيلاء التراب على ما دون عظامكم ﴿وعظاماً﴾ مجردة عن اللحوم والأعصاب ﴿أنكم مخرجون﴾ أي : من تلك الحالة التي صرتم إليها فراجعون إلى ما كنتم عليه من الحياة على ما كان لكم من الأجسام.
تنبيه : قوله تعالى : مخرجون خبر إنكم الأولى، وإنكم الثانية تأكيد لها لما طال الفصل، ثم استأنفوا التصريح بما دل عليه الكلام من استبعاد ذلك فقالوا :
﴿هيهات هيهات﴾ اسم فعل ماض بمعنى مصدر أي : بعد بعد جداً، وقال ابن عباس : هي كلمة بعد أي : بعيد، ثم كأنه قيل : لأي شيء هذا الاستبعاد ؟
فقيل :﴿لما توعدون﴾ من الإخراج من القبور فإن قيل : ما توعدون هو المستبعد ومن حقه أنّ يرفع بهيهات كما ارتفع به في قوله :
*فهيهات هيهات العقيق وأهله
فما هذه اللام ؟
أجيب : بأنّ الزجاج قال في تفسيره : البعد لما توعدون فنزل منزلة المصدر، ويصح أنّ تكون اللام لبيان المستبعد ما هو بعد التصويت بكلمة الاستبعاد كما جاءت اللام في هيت لك لبيان المهيت به أو أنّ اللام زائدة للبيان.
فائدة : وقف البزي والكسائي على هيهات الأولى والثانية بالهاء، والباقون بالتاء على المرسوم.
وقولهم :﴿إن هي﴾ ضمير لا يعلم ما يعنى به إلا بما يتلوه من بيانه، وأصله إن الحياة ﴿إلا
٦٤١
حياتنا الدنيا﴾
ثم وضع هي موضع الحياة ؛ لأنّ الخبر يدل عليها ويبينها، ومنه هي النفس تتحمل ما حملت، والمعنى : لا حياة إلا هذه الحياة ؛ لأنّ إن النافية دخلت على هي التي بمعنى الحياة الدالة على الجنس فنفتها، فوازنت لا التي نفت ما بعدها نفي الجنس ﴿نموت ونحيى﴾ أي : يموت منا من هو موجود وينشأ آخرون بعدهم، وقيل : يموت قوم ويحيا قوم، وقيل : تموت الآباء وتحيا الأبناء، وقيل : في الآية تقديم وتأخير أي : نحيا ونموت لأنهم كانوا ينكرون البعث بعد الموت كما قالوا :﴿وما نحن بمبعوثين﴾ بعد الموت فكأنه قيل : فما هذا الكلام الذي يقوله ؟
فقيل : كذب ثم حصروا أمره في الكذب فقالوا :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٤٠


الصفحة التالية
Icon