إن} أي : ما ﴿هو إلا رجل افترى﴾ أي : تعمد ﴿على الله﴾ أي : الملك الأعلى ﴿كذباً﴾ فلا يلتفت إليه ﴿وما نحن له بمؤمنين﴾ أي : بمصدقين فيما يخبرنا به من البعث والرسالة، فكأنه قيل : فما قال ؟
فقيل :
﴿قال رب﴾ أيها المحسن إليّ بالرسالة وبإرسالي إليهم وبغيره من أنواع النعم ﴿انصرني﴾ أي : أوقع لي النصر ﴿بما كذبون﴾ فأجابه ربه بأن :
﴿قال عما قليل﴾ من الزمان وما زائدة وأكدت القلة بزيادتها ﴿ليصبحن﴾ أي : ليصيرنّ ﴿نادمين﴾ أي : على كفرهم وتكذيبهم إذا عاينوا العذاب.
﴿فأخذتهم الصيحة﴾ أي : صيحة العذاب والهلاك كائنة ﴿بالحق﴾ أي : الأمر الثابت من العذاب الذي لا يمكن مدافعته لهم ولا لغيرهم غير الله تعالى فماتوا، وقيل : صيحة جبريل عليه السلام، ويكون القوم ثمود على الخلاف السابق ﴿فجعلناهم﴾ بسبب الصيحة ﴿غثاء﴾ أي : مطروحين ميتين كما يطرح الغثاء شبهوا في دمارهم بالغثاء وهو حميل السيل مما بلي واسودّ من الورق والعيدان ومنه قوله :﴿فجعله غثاء أحوى﴾ (الأعلى، ٥)
أي : أسود يابساً، ولما كان هلاكهم على هذا الوجه سبباً لهوانهم عبر عنه بقوله تعالى :﴿فبعداً﴾ أي : هلاكاً وطرداً عن الرحمة ﴿للقوم الظالمين﴾ الذين وضعوا قوّتهم التي كان يجب عليهم بذلها في نصر الرسل في خذلانهم.
تنبيه : يحتمل هذا الدعاء عليهم والإخبار عنهم، ووضع الظاهر موضع ضميرهم للتعليل وبعداً وسحقاً ونفراً وتخويفاً ونحوها مصادر موضوعة مواضع أفعالها وهي من جملة المصادر التي قال سيبويه : نصبت بأفعال لا يستعمل إظهارها.
القصة الثالثة : المذكورة في قوله تعالى :
﴿ثم أنشأنا﴾ أي : بعظمتنا التي يضرها تقديم ولا تأخير ﴿من بعدهم﴾ أي : من بعد من قدّمنا ذكره من نوح والقرن الذي بعده ﴿قرونا﴾ أي : أقواماً ﴿آخرين﴾ فهو سبحانه وتعالى تارة يقص علينا في القرآن مفصلاً كما تقدم، وتارة يقص مجملاً كما هنا، وقيل : المراد قصة لوط وشعيب وأيوب ويوسف عليهم السلام، وعن ابن عباس : بني إسرائيل، ثم إنه تعالى أخبر بأنه لم يعجل على أحد منهم قبل الأجل الذي أجل لهم بقوله تعالى :
﴿ما تسبق من أمة أجلها﴾ أي : الذي قدر لها بأنّ تموت قبله ﴿وما يستأخرون﴾ عنه.
تنبيه : ذكر الضمير بعد تأنيثه رعاية للمعنى ومن زائدة.
﴿ثم أرسلنا رسلنا تتراً﴾ أي : متتابعين بين كل اثنين زمان طويل، وقرأ أبو عمرو : رسلنا بسكون السين، والباقون برفعها، وقرأ تترا، ابن كثير وأبو عمرو في الوصل بتنوين الراء على أنه مصدر بمعنى التواتر وقع حالاً، والباقون بغير تنوين، ولما كان كأنه قيل : فكان ماذا ؟
قيل :﴿كلما جاء أمّة رسولها﴾ أي : بما أمرناه من التوحيد ﴿كذبوه﴾ أي : كما فعل هؤلاء بك لما أمرتهم بذلك.
٦٤٢
تنبيه : أضاف الرسول مع الإرسال إلى الرسل ومع المجيء إلى المرسل إليهم ؛ لأنّ الإرسال الذي هو مبدأ الأمر منه والمجيء الذي هو منتهاه إليهم، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية بين الهمزة والواو، والباقون بتحقيقهما، وهم على مراتبهم في المدّ ﴿فأتبعنا﴾ القرون بسبب تكذيبهم ﴿بعضهم بعضاً﴾ في الإهلاك، فلم يبق عند الناس منهم إلا أخبارهم كما قال تعالى :﴿وجعلناهم أحاديث﴾ أي : أخبار يسمعونها ويتعجب منها ليكونوا عظة للمستبصرين فيعلموا أنه لا يفلح الكافرون ولا يخيب المؤمنون، وما أحسن قول القائل :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٤٠
ولا شيء يدوم فكن حديثاً
** جميل الذكر فالدنيا حديث
والأحاديث تكون جمعاً للحديث، ومنه أحاديث رسول الله ﷺ وتكون جمعاً للأحدوثة التي هي مثل الأعجوبة والألعوبة وهي ما يتحدث به الناس تلهياً وتعجباً وهو المراد هنا، ولما تسبب عن تكذيبهم هلاكهم المقتضي لبعدهم قال تعالى :﴿فبعداً لقوم﴾ أي : أقوياء على ما يطلب منهم ﴿لا يؤمنون﴾ أي : لا يوجد منهم إيمان وإن جرت عليهم الفصول الأربعة لأنه لا مزاج لهم معتدل.
القصة الرابعة : قصة موسى وهارون عليهما السلام المذكورة في قوله تعالى :


الصفحة التالية
Icon