﴿ثم أرسلنا﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿موسى وأخاه هارون بآياتنا﴾ قال ابن عباس : الآيات التسع وهي العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم والبحر والسنين ونقص الثمرات ﴿وسلطان مبين﴾ أي : حجة بيّنة وهي العصا وأفردها بالذكر ؛ لأنها قد تعلق بها معجزات شتى من انقلابها حية وتلقفها ما أفكته السحرة وانفلاق البحر وانفجار العيون من الحجر بضربها، وكونها حارساً وشمعة وشجرة خضراء مثمرة ودلواً ورشاء، فجعلت كأنها ليست بعصا لما استبدت به من الفضائل فلذلك عطفت عليها كقوله تعالى :﴿من كان عدوّاً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال﴾، ويجوز أنّ يراد بالآيات نفس تلك المعجزات وبالسلطان المبين كيفية دلالتها على الصدق وذلك لأنها وإن شاركت آيات سائر الأنبياء في كونها آيات، فقد فارقتها في قوّة دلالتها على قول موسى عله السلام، وإنّ يراد بالسلطان المبين المعجزات وبالآيات الحجج، وإنّ يراد بها المعجزات فإنها آيات النبوّة وحجة بينة على ما يدعيه النبي، قال الرازي : واعلم أنّ الآية تدل على أنّ معجزات موسى كانت معجزات هارون أيضاً وأنّ النبوّة كما كانت مشتركة بينهما، فكذلك المعجزات.
﴿إلى فرعون وملئه﴾ أي : وقومه ولكن لما كان الأطراف لا يخافون الأشراف عدهم عدماً، ومن الواضح أنّ التقدير أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، وأشار بقوله تعالى :﴿فاستكبروا﴾ إلى أنهم أوجدوا الكبر عن الاتباع فيما دعوهم إليه عقب الإبلاغ من غير تأمل ولا تثبت، وطلبوا أنّ لا يكونوا تحت أمر من دعاهم، وأشار بالكون إلى فساد جبلتهم بقوله تعالى :﴿وكانوا قوماً﴾ أي : أقوياء ﴿عالين﴾ أي : متكبرين قاهرين غيرهم بالظلم، ولما تسبب عن استكبارهم وعلوهم إنكارهم للاتباع قال تعالى :
﴿فقالوا أنؤمن﴾ أي : بالله تعالى مصدقين ﴿لبشرين مثلنا﴾ أي : في البشرية والمأكل والمشرب وغيرهما مما يعتري البشر كما قال من تقدمهم :﴿وقومهما﴾ أي : والحال أنّ قومهما أي : بني إسرائيل ﴿لنا عابدون﴾ خضوعاً وتذللاً أي : في غاية الذل والانقياد كالعبيد، فنحن أعلى منهما بهذا، أو لأنه كان يدعي الإلهية،
٦٤٣
فادعى للناس العبادة وأنّ طاعتهم له عبادة على الحقيقة.
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٤٠
فكذبوهما﴾ أي : فرعون وملؤه موسى وهارون، ﴿فكانوا﴾ أي : فرعون وملؤه بسبب تكذيبهم ﴿من المهلكين﴾ أي : بالغرق ببحر القلزم ولم تغنِ عنهم قوّتهم في أنفسهم، ولا قوتهم على خصوص بني إسرائيل واستعبادهم ولا ضر بني إسرائيل ضعفهم عن دفاعهم ولا ذلهم لهم وصغارهم في أيديهم، ولما كان ضلال بني إسرائيل بعد إنقاذهم من عبودية فرعون وقومه أعجب قال تعالى تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٤٠
﴿ولقد آتينا﴾ أي : بعظمتنا ﴿موسى الكتاب﴾ أي : التوراة ﴿لعلهم﴾ أي : قوم موسى وهارون عليهما السلام ﴿يهتدون﴾ من الضلالة إلى المعارف والأحكام، ولا يصح عود الضمير إلى فرعون وملئه ؛ لأنّ التوراة إنما أوتيها بنو إسرائيل بعد إغراق فرعون وملئه بدليل قوله تعالى :﴿ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى﴾ (القصص، ٤٣)
القصة الخامسة : قصة عيسى عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :
﴿وجعلنا﴾ أي : بعظمتنا وقدرتنا ﴿ابن مريم﴾ نسبه إليها تحقيقاً لكونه لا أب له، وكونه بشراً محمولاً في البطن مولوداً لا يصلح لرتبة الإلهية، وزاد في تحقيق ذلك بقوله :﴿وأمه﴾ وقال تعالى :﴿آية﴾ ولم يقل : آيتين ؛ لأنّ الآية فيهما واحدة ولادته من غير فحل، ويحتمل أنّ الآية الأولى حذفت لدلالة الثانية عليها، والتقدير : وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية لأنّ الله تعالى : جعل مريم آية لأنها حملته من غير ذكر، وقال الحسن : قد تكلمت في صغرها كما تكلم عيسى وهو قولها :﴿هو
٦٤٤
من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب﴾، ولم تلتقم ثدياً قط.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٤٤
تنبيه : قال بعض المفسرين : ولعل في ذلك إشارة إلى أنه تكلمت به آية للقدرة على إيجاد الإنسان بكل اعتبار من غير ذكر ولا أنثى، وهو آدم عليه السلام، ومن ذكر بلا أنثى وهي حوّاء عليها السلام، ومن أنثى بلا ذكر وهو عيسى عليه السلام، ومن الزوجين وهو بقية الناس ﴿وآويناهما﴾ أي : بعظمتنا ﴿إلى ربوة﴾ أي : مكان عالٍ من الأرض.
تنبيه : قد اختلف في هذه الربوة، فقال عطاء عن ابن عباس : هي بيت المقدس، وهو قول قتادة وكعب، قال كعب : هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً، وقال عبد الله بن سلام : هي دمشق، وقال أبو هريرة : هي الرملة، وقال السدي : هي أرض فلسطين، وقال ابن زيد : هي مصر، وقرأ ابن عامر وعاصم بفتح الراء، والباقون بضم الراء ﴿ذات قرار﴾ أي : منبسطة مستوية واسعة يستقر عليها ساكنوها ﴿ومعين﴾ أي : ماء جار ظاهر تراه العيون.