تنبيه : قد اختلف في زيادة ميم معين وأصالتها فوجه من جعلها مفعولاً أنه مدرك بالعين لظهوره من عانه إذا أدركه بعينه نحو ركبه إذا ضربه بركبته، ووجه من جعله فعيلاً أنه نفاع لظهوره وجريه من الماعون وهو المنفعة قيل : سبب الإيواء أنها مرت بابنها إلى الربوة، وبقيت بها اثنتي عشرة سنة، ثم رجعت إلى أهلها بعدما مات ملكهم وههنا آخر القصص. وقد اختلف في المخاطب بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٤٤
يا أيها الرسل كلوا من الطيبات﴾
على وجوه ؛ أحدها : أنه محمد ﷺ وحده على مذهب العرب في مخاطبة الواحد بلفظ الجماعة، ثانيها : أنه عيسى عليه السلام ؛ لأنه روي أنّ عيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه، ثالثها : أنه كل رسول خوطب بذلك، ووصي به لأنه تعالى في الأزل متكلم آمر ناهٍ، ولا يشترط في الأمر وجود المأمورين بل الخطاب أزلاً على تقدير وجود المخاطبين، فقول البيضاوي : لا على أنهم خوطبوا بذلك دفعة لأنهم أرسلوا في أزمنة مختلفة بل على معنى أنّ كلاً منهم خوطب به في زمانه، تبع فيه "الكشاف"، فإن المعتزلة أنكروا قدم الكلام فحملوا الآية على خلاف ظاهرها، وأنت خبير بأنّ عدم اشتراط ما ذكر إنما هو في التعلق المعنوي لا التنجيزي الذي الكلام فيه، فإنه مشروط فيه ذلك، وإنما خاطب جميع الرسل بذلك ليعتقد السامع أنّ أمراً خوطب به جميع الرسل ووصوا به حقيق أنّ يؤخذ به ويعمل عليه، وهذا كما قال الرازي أقرب ؛ لأنه روي "عن أم عبد الله أخت شداد بن أوس أنها بعثت إلى رسول الله ﷺ بقدح من لبن في شدّة الحر عند فطره وهو صائم، فرد ﷺ إليها وقال : من أين لك هذا ؟
فقالت : من شاة لي، ثم رده ﷺ وقال : من أين هذه الشاة ؟
فقالت : اشتريتها من مالي، فأخذه ثم إنها جاءته فقالت : يا رسول الله لم رددته ؟
فقال ﷺ بذلك أمرت الرسل أنّ لا تأكل إلا طيباً، ولا تعمل إلا صالحاً"، والمراد بالطيب الحلال، وقيل : طيبات الرزق الحلال الصافي القوام، فالحلال هو الذي لا يعصى الله تعالى فيه، والصافي هو الذي لا ينسى الله فيه، والقوام هو الذي يمسك النفس ويحفظ العقل، وقيل : المراد بالطيب المستلذ أي : ما تستلذه النفس من المأكل والمشرب والفواكه، ويشهد له مجيئه على عقب قوله تعالى :﴿وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين﴾
٦٤٥
(المؤمنون، ٥٠)، واعلم أنه سبحانه وتعالى كما قال للمرسلين :﴿يا أيها الرسل كلوا من الطيبات﴾ قال للمؤمنين :﴿يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم﴾، ودل سبحانه وتعالى على أنّ الحلال عون على الطاعة بقوله تعالى :﴿واعملوا صالحاً﴾ فرضاً ونفلاً سراً وجهراً غير خائفين من أحد غير الله تعالى، ثم حثهم على دوام المراقبة بقوله تعالى :﴿إني بما﴾ أي : بكل شيء ﴿تعملون عليم﴾ أي : بالغ العلم فأجازيكم عليه، وقرأ :
﴿وإن هذه﴾ بكسر الهمزة الكوفيون على الاستئناف، والباقون بفتحها على تقدير واعلموا أنّ هذه أي : ملة الإسلام، وخفف النون ساكنة ابن عامر وشدّدها مفتوحة الباقون ﴿أمتكم﴾ أي : دينكم أيها المخاطبون أي : يجب أنّ تكونوا عليها حال كونها ﴿أمة واحدة﴾ لا شتات فيها أصلاً، فما دامت موحدة، فهي مرضية ﴿وأنا ربكم﴾ أي : المحسن إليكم بالخلق والرزق وحدي، فمن وحدني نجا، ومن أشرك معي غيري هلك ﴿فاتقون﴾ أي : فاحذرون.
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٤٤
فتقطعوا﴾
أي : الأمم وإنما أضمرهم لوضوح إرادتهم ؛ لأنّ الآية التي قبلها قد صرحت بأنّ الأنبياء ومن نجا منهم أمة واحدة لا خلاف بينهما، فعلم قطعاً أنّ الضمير للأمم، ومن نشأ بعدهم ولذلك كان النظر إلى الأمر الذي كان واحداً أهم فقدم، وقوله :﴿أمرهم﴾ أي : دينهم بعد أنّ كان مجتمعاً متصلاً ﴿بينهم﴾ وقوله تعالى :﴿زبراً﴾ حال من فاعل تقطعوا أي : أحزاباً متخالفين، فصاروا فرقاً كاليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من الأديان المختلفة جمع زبور بمعنى الفرقة، وقيل : معنى زبراً كتباً أي : تمسك كل قوم بكتاب فآمنوا به وكفروا بما سواه من الكتب ﴿كل حزب﴾ أي : فرقة من المتحزبين ﴿بما لديهم﴾ أي : عندهم من ضلال وهدى، وقرأ حمزة بضم الهاء والباقون بكسرها ﴿فرحون﴾ أي : مسرورون فضلاً عن أنهم راضون، وقوله تعالى :
﴿فذرهم﴾ خطاب للنبي ﷺ أي : اترك كفار مكة ﴿في غمرتهم﴾ أي : ضلالتهم، شبهها بالماء الذي يغمر القامة لأنهم مغمورون فيها ﴿حتى حين﴾ أي : إلى أنّ يقتلوا أو يموتوا، سلى رسول الله ﷺ بذلك ونهى عن الاستعجال بعذابهم والجزع من تأخيره، ولما كان الموجب لغرورهم ظنهم أنّ حالهم في بسط الأرزاق من الأموال والأولاد حالة رضا عنهم أنكر ذلك عليهم تنبيهاً لمن سبقت له السعادة، و كتبت له الحسنى وزيادة فقال تعالى :


الصفحة التالية
Icon