﴿أيحسبون﴾ أي : لضعف عقولهم، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين والباقون بكسرها ﴿أنما نمدهم﴾ أي : نعطيهم ونجعله مدداً لهم ﴿به من مال﴾ نيسره لهم ﴿وبنين﴾ نمتعهم بهم، ثم أخبر عن أنّ بقوله تعالى :
﴿نسارع﴾ أي : نعجل ﴿لهم﴾ أي : به ﴿في الخيرات﴾ لا نفعل ذلك ﴿بل لا يشعرون﴾ أنهم في غاية البعد عن الخيرات ﴿سنستدرجهم من حيث لا يعلمون﴾ (الأعراف، ١٨٢)، وقال تعالى في موضع آخر :﴿فلا تعجبك أمولهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون﴾ (التوبة، ٥٥)، وروي عن زيد بن ميسرة أنه قال : أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء أيفرح عبدي أنّ أبسط إليه الدنيا، وهو أبعد له مني، ويحزن أنّ أقبض عنه الدنيا وهو أقرب له مني، وعن الحسن أنه لما أتي عمر رضي الله عنه بسواري كسرى فأخذهما ووضعهما في يد سراقة بن مالك فبلغا منكبيه، فقال عمر : اللهم إني قد علمت أنّ نبيك عليه الصلاة والسلام كان يحب أن يصيب مالاً لينفقه في سبيلك، فزويت ذلك عنه، ثم إن أبا بكر كان يحب
٦٤٦
ذلك اللهم لا يكون ذلك مكراً منك، ثم تلا :﴿أيحسبون﴾ الآية. ولما ذكر أهل الافتراق ذكر أهل الوفاق ووصفهم بأربع صفات.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٤٤
الأولى : قوله تعالى :
﴿إن الذين هم﴾ أي : ببواطنهم ﴿من خشية ربهم﴾ أي : الخوف العظيم من المحسن إليهم المنعم عليهم ﴿مشفقون﴾ أي : دائمون على الحذر.
الصفة الثانية : قوله تعالى :
﴿والذين هم بآيات ربهم﴾ أي : القرآن ﴿يؤمنون﴾ أي : يصدقون.
الصفة الثالثة : قوله تعالى :
﴿والذين هم بربهم﴾ أي : الذي لا محسن إليهم غيره ﴿لا يشركون﴾ أي : شيئاً من شرك في وقت من الأوقات كما لم يشركه في الإحسان إليهم أحد، ولما أثبت لهم الإيمان الخالص نفى عنهم العجب بقوله تعالى :
﴿والذين يؤتون﴾ أي : يعطون ﴿ما آتوا﴾ أي : ما أعطوا من الصدقة والأعمال الصالحة، وهذه الصفة الرابعة ﴿وقلوبهم وجلة﴾ أي : شديدة الخوف أنّ لا يقبل منهم ولا ينجيهم من عذاب الله، ثم علل ذلك بقوله تعالى :﴿أنهم إلى ربهم﴾ أي : الذي طال إحسانه إليهم ﴿راجعون﴾ بالبعث، فيجازيهم على النقير والقطمير، ويجزيهم بكل قليل وكثير، وهو الناقد البصير، ولا تنفع هناك الندامة، وليس هناك إلا الحكم العدل والحكم القاطع من جهة مالك الملك ؛ قال الحسن البصري : المؤمن جمع إيماناً وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمناً، ثم أثبت لهم ما أفهم أنّ ضده لأضدادهم بقوله تعالى :
﴿أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون﴾ أي : يبادرون إلى الأعمال الصالحة قبل الموت، ولما ذكر تعالى كيفية أعمال المؤمنين المخلصين ذكر أنه تعالى لا يكلف أحداً فوق طاقته بقوله تعالى :
﴿ولا نكلف نفساً إلا وسعها﴾ أي : طاقتها، فمن لم يستطع أن يصلي الفرض قائماً فليصل قاعداً، ومن لم يستطع أنّ يصلي قاعداً فليصل مضطجعاً، ومن لم يستطع أنّ يصوم رمضان فليفطر ؛ لأنّ مبنى المخلوق على العجز ﴿ولدينا﴾ أي : وعندنا ﴿كتاب ينطق بالحق﴾ بما عملته كل نفس، وهو اللوح المحفوظ تسطر فيه الأعمال، وقيل : كتب الحفظة ونظيره قوله تعالى :﴿هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق﴾ (الجاثية، ٢٩)، وقوله تعالى :﴿لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها﴾ (الكهف، ٤٩)، فشبه تعالى الكتاب بمن يصدر عنه البيان، فإن الكتاب لا ينطق لكنه يعرف بما فيه كما يعرف بنطق الناطق إذا كان محقاً فإن قيل : ما فائدة ذلك الكتاب مع أنّ الله تعالى يعلم ذلك إذ لا تخفى عليه خافية ؟
أجيب : بأنّ الله تعالى يفعل ما يشاء، وقد يكون في ذلك حكمة لا يطلع عليها إلا هو تعالى ﴿وهم﴾ أي : الخلق كلهم ﴿لا يظلمون﴾ أي : لا ينقص من حسناتهم، ولا يزاد في سيئاتهم، ثم ذكر حال الكفار فقال تعالى :
﴿بل قلوبهم﴾ أي : الكفرة من الخلق ﴿في غمرة﴾ أي : جهالة قد أغرقتها ﴿من هذا﴾ أي : القرآن أو الذي وصف به حال هؤلاء أو من كتاب الحفظة ﴿ولهم أعمال من دون ذلك﴾ المذكور للمؤمنين ﴿هم﴾ أي : الكفار ﴿لها﴾ أي : لتلك الأعمال الخبيثة ﴿عاملون﴾ أي : لا بد أنّ يعملوها فيعذبون عليها لما سبق من الشقاوة.
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٤٤
حتى إذا أخذنا مترفيهم﴾
أي : رؤساءهم وأغنياءهم ﴿بالعذاب﴾ قال ابن عباس : هو السيف يوم بدر، وقيل : هو الجوع دعا عليهم رسول الله ﷺ وقال :"اللهم اشدد وطأتك على مضر
٦٤٧
واجعلها عليهم سنين كسني يوسف" فابتلاهم الله تعالى بالقحط حتى أكلوا الكلاب والجيف والعظام المحرقة والقذر والأولاد ﴿إذا هم يجأرون﴾ أي : يصيحون ويستغيثون ويجزعون، وأصل الجأر رفع الصوت بالتضرع ؛ قاله البغوي، فكأنه قيل : فهل يقبل اعتذارهم أو يرحم انكسارهم ؟
فقيل : لا بل يقال لهم بلسان الحال أو المقال.


الصفحة التالية
Icon