﴿لا تجأروا اليوم﴾ فإن الجأر غير نافع لكم، ثم علل ذلك بقوله تعالى :﴿إنكم منا لا تنصرون﴾ أي : بوجه من الوجوه، ومن عدم نصرنا لم يجد له ناصراً فلا فائدة لجأره إلا إظهار الجزع، ثم علل عدم نصره لهم بقوله تعالى :
﴿قد كانت آياتي﴾ أي : من القرآن ﴿تتلى عليكم﴾ أي : من أوليائي وهم الهداة النصحاء ﴿فكنتم﴾ كوناً هو كالجبلة ﴿على أعقابكم﴾ عند تلاوتها ﴿تنكصون﴾ أي : تعرضون مدبرين عن سماعها والعمل بها، والنكوص الرجوع القهقرى.
﴿مستكبرين﴾ عن الإيمان، واختلف في عود الضمير في ﴿به﴾ فقال ابن عباس : بالبيت الحرام، وشهرة استكبارهم وافتخارهم أنهم قوّامه أغنت عن سبق ذكره، وذلك أنهم يقولون : نحن أهل حرم الله وجيران بيته، فلا يظهر علينا أحد ولا نخاف أحداً، فيأمنون فيه، وسائر الناس في الخوف، وقيل : بالقرآن، فلم يؤمنوا به، وقوله تعالى :﴿سامراً﴾ نصب على الحال أي : جماعة يتحدثون بالليل حول البيت، وقوله تعالى :﴿تهجرون﴾ قرأه نافع بضم التاء وكسر الجيم من الإهجار وهو الإفحاش أي : تفحشون وتقولون الخنا ذكر أنهم كانوا يسبون النبي ﷺ وأصحابه والباقون بفتح التاء وضم الجيم، أي : تعرضون عن النبي ﷺ وعن الإيمان وعن القرآن وترفضونها وتسمون القرآن سحراً وشعراً، ثم إنه تعالى لما وصف حالهم ردَّ عليهم بأنّ بين أنّ إقدامهم على هذه الأمور لا بد أنّ يكون لأحد أمور أربعة :
أحدها : أنّ لا يتأملوا في دليل نبوّته، وهو المراد من قوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٤٤
﴿أفلم يدّبروا القول﴾ أي : القرآن الدال على صدق النبي ﷺ وأصل يدبروا يتدبروا أدغمت التاء في الدال.
ثانيها : أنّ يعتقدوا أنّ ما جاء به الرسول أمر على خلاف العادة وهو المراد من قوله تعالى :﴿أم جاءهم﴾ في هذا القول ﴿ما لم يأت آباءهم الأولين﴾ الذين بعد إسماعيل وقبله.
ثالثها : أنّ لا يكونوا عالمين بأمانته وحسن حاله قبل ادعائه النبوّة، وهو المراد من قوله تعالى :
﴿أم لم يعرفوا رسولهم﴾ أي : الذي أتاهم بهذا القول الذي لا قول مثله، وهم يعرفون نسبه وصدقه وأمانته، وما جاءهم به من معالي الأخلاق حتى أنهم لا يجدون فيه إذا تحققت الحقائق نقيصة يذكرونها ولا وصمة يستحلونها كما دلت عليه الأحاديث الصحاح منها حديث أبي سفيان بن حرب الذي في أول البخاري في سؤال هرقل ملك الروم له عن شأنه ﷺ وقد اتفقت كلمتهم بتسميته الأمين ﴿فهم﴾ أي : فتسبب عن جهلهم به أنهم ﴿له﴾ أي : نفسه أو القول الذي أتى به ﴿منكرون﴾ فيكونوا ممن جهل الحق لجهل حال الآتي به، وفي هذا غاية التوبيخ لهم بجهلهم وبغباوتهم بأنهم يعرفون أنه أصدق الخلق وأعلاهم في كل معنى جميل، ثم كذبوه.
٦٤٨
رابعها : أنّ يعتقدوا فيه الجنون فيقولوا إنما حمله على ادعائه الرسالة جنونه، وهو المراد من قوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٤٨
أم يقولون﴾
أي : بعد تدبر ما أتى به وعدم عثورهم فيه على وجه من وجوه الطعن ﴿به﴾ أي : رسولهم ﴿جنة﴾ أي : جنون فلا يوثق به.
ولما كانت هذه الأقسام منفية عنه فإنهم أعرف الناس بهذا النبي الكريم، وإنه أكملهم خلقاً وأشرفهم خلقاً، وأظهرهم شيماً، وأعظمهم همماً، وأرجحهم عقلاً وأمتنهم رأياً، وأرضاهم قولاً وأصوبهم فعلاً أضرب عنها وقال تعالى :﴿بل﴾ أي : لم ينكصوا عند سماع الآيات ويسمروا ويهجروا لاعتقاد شيء مما مضى، وإنما فعلوا ذلك لأنّ هذا الرسول الكريم ﴿جاءهم بالحق﴾ أي : القرآن المشتمل على التوحيد وشرائع الإسلام، وقال الجلال المحلي : الاستفهام فيه للتقرير بالحق من صدق النبي ومجيء الرسول للأمم الماضية ومعرفة رسولهم بالصدق والأمانة وأنّ لا جنون به، وبل للانتقال ﴿وأكثرهم﴾ أي : والحال أنّ أكثرهم ﴿للحق كارهون﴾ متابعة للأهواء الردية والشهوات البهيمية عناداً، وإنما قيد تعالى الحكم بالأكثر ؛ لأنّ بعضهم يتركه جهلاً وتقليداً وخوفاً من أنّ يقال صبأ، وبعضهم يتبعه توفيقاً من الله تعالى وتأييداً، ثم بين تعالى أنّ اتباع الهوى يؤدي إلى الفساد العظيم بقوله تعالى :


الصفحة التالية
Icon