إنه كان} أي : كوناً ثابتاً ﴿فريق﴾ أي : ناس قد استضعفتموهم﴿من عبادي﴾ وهم المؤمنون ﴿يقولون﴾ مع الاستمرار ﴿ربنا﴾ أي : أيها المحسن إلينا بالخلق والرزق ﴿آمنا﴾ أي : أوقعنا الإيمان بجميع ما جاءتنا به الرسل ﴿فاغفر لنا﴾ أي : استر لنا زللنا ﴿وارحمنا﴾ أي : افعل بنا فعل الراحم ﴿وأنت خير الراحمين﴾ لأنك تخلص برحمتك من كل شقاء وهوان.
﴿فاتخذتموهم﴾ أي : فتسبب عن إيمانهم أن اتخذتموهم ﴿سخرياً﴾ أي : تسخرون منهم وتستهزؤن بهم، وقرأ نافع وحمزة والكسائي بضم السين، والباقون بالكسر وهو مصدر سخر كالسخر إلا أن في ياء النسب زيادة قوّة في الفعل كما قيل : الخصوصية في الخصوص، وعن الكسائي والفرّاء أن المكسور من الهزء والمضموم من السخرية والعبودية، أي : تسخرونهم وتتعبدونهم ؛ قال الزمخشري : والأول مذهب الخليل وسيبويه، انتهى. وأظهر الذال عند التاء ابن
٦٥٧
كثير وحفص، والباقون بالإدغام ﴿حتى أنسوكم ذكري﴾ أي : بأن تذكروني فتخافوني، وأضاف ذلك إليهم لأنهم كانوا السبب فيه لفرط اشتغالهم بالاستهزاء بهم ﴿وكنتم منهم تضحكون﴾ استهزاء بهم نزلت في كفار قريش كانوا يستهزئون بالفقراء من أصحاب رسول الله ﷺ مثل بلال وعمار وصهيب وخباب، ولما تشوّقت النفس بعد العلم بما فعل بأعدائهم إلى جزائهم قال الله تعالى :
﴿إني جزيتهم اليوم﴾ أي : بالنعيم المقيم ﴿بما صبروا﴾ أي : على عبادتي ولم يشغلهم عنها تألمهم بأذاكم، كما يشغلكم عنها التذاذكم بإهانتهم ففازوا دونكم وهو معنى قوله تعالى :﴿إنهم هم الفائزون﴾ أي : بمطلوبهم الناجون من عذاب النار، وقرأه حمزة والكسائي بكسر الهمزة على الاستئناف والباقون بفتحها على أنها مفعول ثان لجزيتهم، ثم إن الله تعالى :
﴿قال﴾ لهم على لسان الملك المأمور بسؤالهم تبكيتاً وتوبيخاً لأنهم كانوا يظنون أن بعد الموت يدوم الفناء ولا إعادة، فلما حصلوا في النار وأيقنوا أنها دائمة، وأنهم فيها مخلدون سألهم ﴿كم لبثتم في الأرض﴾ على تلك الحال في الدنيا التي كنتم تعدونها فوزاً ﴿عدد سنين﴾ أنتم فيها ظافرون ولأعدائكم قاهرون، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي : قل كم، بضم القاف وسكون اللام على الأمر للملك أو لبعض رؤساء أهل النار، والباقون بفتح القاف واللام وألف بينهما خبراً وتقدم توجيهه وأظهر الثاء المثلثة عند التاء المثناة فوق نافع وابن كثير وعاصم وأدغمها فيها الباقون.
﴿قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم﴾ يشكون في ذلك. فإن قيل : كيف يصح في جوابهم أن يقولوا ذلك، ولا يقع من أهل النار الكذب ؟
أجيب : بأنهم نسوا ذلك لكثرة ما هم فيه من الأهوال، وقد اعترفوا بهذا النسيان حيث قالوا :﴿فاسأل العادين﴾ أي : الملائكة المحصين أعمال الخلق وأعمارهم ؛ قال ابن عباس : أنساهم ما كانوا فيه من العذاب بين النفختين، وقيل : قالوا ذلك تصغيراً للبثهم وتحقيراً له بالإضافة إلى ما وقعوا فيه من دوام العذاب قال بعضهم :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٥٧
لا أن أيام الشقاء طويلة
** كما أن أيام السرور قصار
وقرأ ابن كثير والكسائي بفتح السين وترك الهمز بعدها وكذا يفعل حمزة في الوقف والباقون بسكون السين وهمزة مفتوحة بعدها ثم :
﴿قال﴾ الله تعالى لهم على لسان الملك :﴿إن﴾ أي : ما ﴿لبثتم﴾ أي : في الدنيا ﴿إلا قليلاً﴾، لأن الواحد وإن طال مكثه في الدنيا فإنه يكون قليلاً في جنب ما يلبث في الآخرة ﴿لو أنكم كنتم تعلمون﴾ أي : في عداد من يعلم في ذلك الوقت لما آثرتم الفاني على الباقي ولأقبلتم على ما ينفعكم ولتركتم أفعالكم التي لا يرضاها عاقل، ولكنكم كنتم في عداد البهائم، وقرأ حمزة والكسائي : قل ؛ أمراً، والباقون : قال ؛ خبراً، ولبثتم تقدم مثله، وتوجيه قال وقل، ثم وبخهم الله تعالى على تغافلهم بقوله تعالى :
﴿أفحسبتم أنما خلقناكم﴾ على ما لنا من العظمة، وقوله تعالى :﴿عبثاً﴾ حال أي : عابثين كقوله : لاعبين، أو مفعول له أي : ما خلقناكم
٦٥٨
للعبث، ولم يدعنا إلى خلقكم إلا حكمة اقتضت ذلك، وهي أن نتعبدكم ونكلفكم المشاق من الطاعات وترك المعاصي ﴿و﴾ حسبتم ﴿أنكم إلينا لا ترجعون﴾ في الآخرة للجزاء، وروى البغوي بسنده عن أنس "أن رجلاً مصاباً مرَّ به على ابن مسعود فرقاه في أذنه أفحسبتم إنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون، ثم ختم السورة فبرىء فقال رسول الله ﷺ والذي نفسي بيده لو أن رجلاً موقناً قرأها على جبل لزال"، وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء الفوقية وكسر الجيم، والباقون بضم الفوقية وفتح الجيم، ثم نزّه سبحانه وتعالى نفسه عما يقوله ويصفه به المشركون بقوله تعالى :
﴿فتعالى الله﴾ أي : الذي له الجلال والجمال علواً كبيراً عن العبث، وغيره مما لا يليق به ﴿الملك﴾ أي : المحيط بأهل مملكته علماً وقدرة وسياسة وحفظاً ورعاية ﴿الحق﴾ أي : الذي لا يتطرق الباطل إليه في شيء في ذاته ولا في صفاته فلا زوال له ولا لملكه ﴿لا إله إلا هو﴾ فلا يوجد له نظير أصلاً في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فهو متعالٍ عن سمات النقص والعبث، ثم زاد في التعيين والتأكيد والتفرد بوصفه بصفة لا يدعيها غيره بقوله تعالى :﴿رب العرش﴾ أي : السرير المحيط بجميع الكائنات التي تنزل منه محكمات الأقضية والأحكام ولذا وصفه بالكرم فقال :﴿الكريم﴾ أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين، ولما بيّن سبحانه وتعالى أنه الملك الحق لا إله إلا هو أتبعه بأن من ادّعى إلهاً آخر، فقد ادعى باطلاً بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٥٧
ومن يدع مع الله﴾ أي : الملك الذي لا كفء له ﴿إلهاً آخر﴾ يعبده ﴿لا برهان له به﴾ أي : بسبب دعائه بذلك إذا اجتهد في إقامة برهان على ذلك لم يجد، ثم ذكر أنّ من قال ذلك فجزاؤه العقاب العظيم بقوله تعالى :﴿فإنما حسابه﴾ أي : جزاؤه الذي لا يمكن زيادته ولا نقصه ﴿عند ربه﴾ أي : الذي رباه ولم يربه أحد سواه الذي هو أعلم بسريرته وعلانيته، فلا يخفى عليه شيء من أمره، ولما افتتح السورة بقوله :﴿قد أفلح المؤمنون﴾ ختمها بقوله :﴿إنه لا يفلح الكافرون﴾ أي : لا يسعدون، فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة. ولما شرح الله تعالى أحوال الكفار في جهلهم في الدنيا وعذابهم في الآخرة أمر الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام بالانقطاع إليه والالتجاء إلى غفرانه ورحمته بقوله تعالى :
﴿وقل رب﴾ أي : أيها المحسن إليّ ﴿اغفر وارحم﴾ أي : أكثر من هذين الوصفين ﴿وأنت خير الراحمين﴾ فمن رحمته أفلح بما توفقه له من امتثال ما أشرت إليه أول السورة، فكان من المؤمنين وكان من الوارثين الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون، فقد انطبق على الأول هذا الآخر بفوز كل مؤمن وخيبة كل كافر، فنسأل الله تعالى أن يكون لنا ولوالدينا ولأحبابنا أرحم راحم وخير غافر إنه المتولي للسرائر والمرجو لإصلاح الضمائر، وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه ﷺ قال :"من قرأ سورة المؤمنون بشرته الملائكة بالروح والريحان، وما تقرّ به عينه عند نزول ملك الموت" حديث موضوع، وقوله أيضاً تبعاً للزمخشري : روي أن أول سورة قد أفلح وآخرها من كنوز العرش من عمل بثلاث آيات من أولها واتعظ بأربع آيات من آخرها فقد نجا وأفلح، قال شيخ شيخنا ابن حجر حافظ عصره : لم أجده.
٦٥٩
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٥٧