فإن قيل : هلا قيل لولا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيراً وقلتم ولم عدل عن الخطاب إلى الغيبة، وعن الضمير إلى الظاهر ؟
أجيب : بأن ذلك مبالغة في التوبيخ على طريقة الالتفات وليصرح بلفظ الإيمان دالاً على أن الاشتراك فيه يقتضي أن لا يصدق مؤمن على أخيه ولا مؤمنة على أختها قول عائب ولا طاعن، وفيه تنبيه على أن حق المؤمن إذا سمع قالة في أخيه أن يبني الأمر فيها على الظن لا على الشك، وأن يقول بملء فيه بناءً على ظنه بالمؤمن الخير هذا إفك مبين هكذا اللفظ المصرح ببراءة ساحته لا يقول كما يقول المستيقن المطلع على حقيقة الحال، وهذا من الأدب الحسن الذي قل القائم به والحافظ له وليتك تجد من يسمع فيسكت ولا يشيع ما يسمعه بإخوانه، ثم علل سبحانه وتعالى كذب الآفكين أن قال موبخاً لمن اختلقه وأذاعه ملفتاً لمريديه إلى ظن الخير :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٧٣
لولا﴾ أي : هلا ولم لا ﴿جاؤوا عليه بأربعة شهداء﴾ كما تقدم أن القذف لا يباح إلا بها ﴿فإذ﴾ أي : حين ﴿لم يأتوا بالشهداء﴾ أي : الموصوفين ﴿فأولئك﴾ أي : البعداء من الصواب ﴿عند الله هم الكاذبون﴾ قد جعل الله التفضل بين الرمي الصادق والرمي الكاذب بثبوت شهادة الشهود الأربعة وانتفائها، والذين رموا عائشة لم تكن لهم بينة على قولهم، فقامت عليهم الحجة، وكانوا عند الله أي : في حكمه وشريعته كاذبين، وهذا توبيخ وتعنيف للذين سمعوا الإفك فلم يجدوا في دفعه وإنكاره واحتجاج عليهم بما هو ظاهر مكشوف في الشرع من وجوب تكذيب القاذف بغير بينة في التنكيل به إذا قذف امرأة محصنة من عرض نساء المسلمين فكيف بأم المؤمنين الصديقة بنت الصديق حرمة رسول الله ﷺ حبيبة حبيب رب العالمين. ولما بيّن الله سبحانه وتعالى الدليل على كذب الخائضين في هذا الكلام وأنهم استحقوا الملام قال عاطفاً على لولا الماضية التي للتحضيض :
﴿ولولا﴾ التي هي لامتناع الشيء لوجود غيره ﴿فضل الله﴾ أي : المحيط بصفات الكمال ﴿عليكم ورحمته﴾ أي : معاملته لكم بمزيد الإنعام والإكرام اللازم للرحمة ﴿في الدنيا﴾ بقبول التوبة والمعاملة بالحلم ﴿والآخرة﴾ بالعفو عمن يريد أن يعفو عنه منكم ﴿لمسكم﴾ أي : عاجلكم ﴿في ما أفضتم﴾ أي : أيها العصبة أي : خضتم ﴿فيه﴾ من حديث الإفك ﴿عذاب عظيم﴾ أي : يحتقر معه اللوم والجلد.
٦٧٣
فائدة : في مقطوعة في الرسم من ما كما ترى، ثم بين تعالى وقت حلول العذاب وزمان تعجيله بقوله تعالى :
﴿إذ﴾ أي : مسكم حين ﴿تلقونه﴾ أي : تجتهدون في تلقي أي : قبول هذا الكلام الفاحش وإلقائه ﴿بألسنتكم﴾ أي : يرويه بعضكم عن بعض وذلك أن الرجل منهم كان يلقى الرجل فيقول : بلغني كذا وكذا يتلقونه تلقياً يلقيه بعضهم إلى بعض، وحذفت من الفعل إحدى التاءين ﴿وتقولون بأفواهكم﴾ أي : كلاماً مختصاً بالأفواه فهو كلام لا حقيقة له فلا يمكن ارتسامه في القلب بنوع دليل وأكد هذا المعنى بقوله تعالى :﴿ما ليس لكم به علم﴾ أي : بوجه من الوجوه وتنكيره للتحقير.
فإن قيل : القول لا يكون إلا بالفم، فما معنى قوله تعالى :﴿بأفواهكم﴾ ؟
أجيب : بأن معناه أن الشيء المعلوم يكون علمه في القلب فيترجم عنه اللسان وهذا الإفك ليس إلا قولاً يجري على ألسنتكم ويدور في أفواهكم من غير ترجمة عن علم به في القلب كقوله تعالى :﴿يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم﴾ (آل عمران، ١٦٧)
﴿وتحسبونه﴾ بدليل سكوتكم عن إنكاره ﴿هيناً﴾ أي : لا إثم فيه ﴿وهو﴾ أي : والحال أنه ﴿عند الله﴾ أي : الذي لا يبلغ أحد مقدار عظمته ﴿عظيم﴾ في الوزر واستجرار العذاب فهذه ثلاثة آثام مرتبة علق بها مس العذاب العظيم تلقي الإفك بألسنتهم والتحدث به من غير تحقق واستصغارهم لذلك، وهو عند الله تعالى عظيم :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٧٣
ولولا﴾ أي : وهلا ولم لا ﴿إذ﴾ أي : حين ﴿سمعتموه قلتم﴾ من غير توقف ولا تلعثم ﴿ما يكون﴾ أي : ما ينبغي وما يصح ﴿لنا أن نتكلم بهذا﴾ أي : القول المخصوص ويجوز أن تكون الإشارة إلى نوعه فإن قذف آحاد الناس محرم، فكيف بمن اختارها العليم الحكيم لصحبة أكمل الخلق.
فإن قيل : كيف جاز الفصل بين لولا وقلتم ؟
أجيب : بأن الظروف تنزل من الشيء منزلة نفسه لوقوعه فيها وأنها لا انفكاك لها عنه فلذلك يتسع فيها ما لا يتسع في غيرها.
فإن قيل : أيّ فائدة في تقديم الظرف حتى أوقع فاصلاً ؟
أجيب : بأن الفائدة فيه بيان أنه كان الواجب عليهم أن يذبوا أول ما سمعوا بالإفك عن التكلم به فلما كان ذكر الوقت أهم وجب التقديم.
فإن قيل : ما معنى يكون والكلام بدونه ملتئم لو قيل ما لنا أن نتكلم بهذا ؟
أجيب : بأن معناه ينبغي ويصح أي : ما ينبغي لنا أن نتكلم بهذا وما يصح لنا كما تقدم تقريره، ونحوه ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق، وقوله تعالى :﴿سبحانك﴾ تعجب من أن يخطر ذلك بالبال في حال من الأحوال.