﴿فإن لم تجدوا فيها﴾ أي : البيوت ﴿أحداً﴾ يأذن لكم في دخولها ﴿فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم﴾ أي : حتى يأتي من يأذن لكم فإن المانع من الدخول فيها ليس الاطلاع على العورات فقط، وإنما شرع لئلا يوقف على الأحوال التي تطويها الناس في العادة عن غيرهم ويتحفظون من اطلاع أحد عليها ولأنه تصرف في ملك غيرك، فلا بد أن يكون برضاه وإلا أشبه الغصب والتغلب ﴿وإن قيل لكم ارجعوا﴾ أي : بعد الاستئذان ﴿فارجعوا﴾ أي : إذا كان في البيت أحد، وقال لكم : ارجعوا فارجعوا ﴿هو﴾ أي : الرجوع ﴿أزكى﴾ أي : أطهر وأصلح ﴿لكم﴾ من الوقوف على الأبواب منتظرين ؛ لأن هذا مما يجلب الكراهة ويقدح في قلوب الناس خصوصاً إذا كانوا ذوي مروءة مرتاضين للآداب الحسنة وإذا نهي عن ذلك لأدائه إلى الكراهة وجب الانتهاء عن كل ما يؤدي إليها من قرع الباب بعنف والتصييح بصاحب الدار وغير ذلك مما يدخل في عادات من لم يتهذب من أكثر الناس، وعن أبي عبيد رحمه الله تعالى : ما قرعت باباً على عالم قط، وكفى بقصة بني أسد زاجرة وما نزل فيها من قوله تعالى :﴿إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون﴾، (الحجرات، ٤)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٧٩
وعن قتادة رحمه الله تعالى : إذا لم يؤذن له لا يقعد وراء الباب فإن للناس حاجات، وإن حضر ولم يستأذن وقعد على الباب منتظراً جاز، وكان ابن عباس رضي الله
٦٨٠
تعالى عنهما يأتي باب الأنصاري لطلب الحديث فيقعد على الباب حتى يخرج، ولا يستأذن فيخرج الرجل فيقول : يا ابن عم رسول الله ﷺ لو أخبرتني فيقول : هكذا أمرنا أن نطلب العلم، فإذا وقف فلا ينظر من شق الباب إذا كان الباب مردوداً لما روي عن أبي هريرة أنه قال : قال رسول الله ﷺ "من اطلع في بيت قوم فقد حل لهم يفقؤوا عينه" وفي رواية للنسائي قال :"لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته ففقأت عينه ما كان عليك جناح"، ولو عرض أمر في دار من حريق أو هدم أو هجوم سارق أو ظهور منكر يجب إنكاره جاز الدخول بغير إذن ﴿والله﴾ أي : الذي لا يخفى عليه شيء ﴿بما تعملون﴾ من الدخول بإذن وبغير إذن ﴿عليم﴾ فيجازيكم عليه.
لما نزلت آية الاستئذان قالوا : يا رسول الله كيف بالبيوت التي بين مكة والمدينة والشام على ظهر الطريق ليس فيها إنسان فأنزل اللّه تعالى :
﴿ليس عليكم جناح﴾ أي : إثم ﴿أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة﴾ أي : بغير استئذان منكم، وذلك كبيوت الخانات والربط المسبلة ﴿فيها متاع﴾ أي : منفعة ﴿لكم﴾ والمنفعة فيها بالنزول وأنواع المتاع والاتقاء من الحر والبرد ونحو ذلك، وقال ابن زيد : هي بيوت التجار وحوانيتهم التي بالأسواق يدخلها للبيع والشراء وهو المنفعة، وقال إبراهيم النخعي : ليس على حوانيت الأسواق إذن، وكان ابن سيرين رحمه الله تعالى إذا جاء إلى حانوت السوقي يقول : السلام عليكم أدخل ثم يلج، وقال عطاء : هي البيوت الخربة والمتاع هو قضاء الحاجة فيها من البول والغائط، وذلك استثناء من الحكم السابق لشموله البيوت المسكونة وغيرها ﴿والله يعلم ما تبدون﴾ أي : تظهرون ﴿وما تكتمون﴾ أي : تخفون في دخول غير بيوتكم من قصد صلاح أو غيره، وفي ذلك وعيد من الله تعالى لمن دخل لفساد أو تطلع على عورات وسيأتي أنهم إذا دخلوا بيوتهم سلموا على أنفسهم.
والحكم السابع حكم النظر المذكور في قوله تعالى :
﴿قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم﴾ أي : عما لا يحل لهم نظره ﴿ويحفظوا فروجهم﴾ أي : عما لا يحل لهم فعله بها.
تنبيه : من للتبعيض، والمراد غض البصر عما لا يحل كما مرَّ والاقتصار به على ما يحل، وجوّز الأخفش أن تكون مزيدة وأباه سيبويه.
فإن قيل : لم دخلت من في غض البصر دون حفظ الفرج ؟
أجيب : بأن في ذلك دلالة على أن المراد أن أمر النظر أوسع بدليل جواز النظر للمحارم فيما عدا ما بين السرة والركبة، وأما نظر الفروج فالأمر فيه ضيق وكفاك فرقاً أن أبيح النظر إلا ما استثني منه، وحظر الجماع إلا ما استثني منه، ويجوز أن يراد مع حفظها عن الإفضاء إلى ما لا يحل حفظها عن الإبداء، وعن ابن زيد : كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا إلا هذا فإنه أراد به الاستتار.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٧٩
فإن قيل : لم قدم غض البصر على حفظ الفرج ؟
أجيب : بأن البلوى فيه أشد. وروي عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه قال : سألت النبي ﷺ عن نظر الفجأة فقال :"اصرف بصرك". وعن بريدة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله ﷺ لعلي :"يا علي لا تتبع النظرة
٦٨١