﴿وهي تجري بهم﴾ متعلق بمحذوف دلّ عليه اركبوا، أي : فركبوا مسمين الله تعالى وهي تجري وهم فيها ﴿في موج﴾ وهو ما ارتفع من الماء إذا اشتدّت عليه الريح ﴿كالجبال﴾ في عظمه وارتفاعه على الماء، قال العلماء : بالسير أرسل الله تعالى المطر أربعين يوماً وليلة. وخرج الماء من الأرض فذلك قوله تعالى :﴿ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا، فالتقى الماء على أمر قد قدر﴾ (القمر، ١١، ١٢) فصار الماء نصفين نصف من السماء ونصف من الأرض وارتفع الماء على أعلى جبل وأطوله أربعين ذراعاً، وقيل : خمسة عشر ذراعاً حتى أغرق كل شيء، وروي أنه لما كثر الماء في السكك خافت امرأة على ولدها من الغرق وكانت تحبه حباً شديداً فخرجت به إلى الجبل حتى بلغت ثلثه، فلما بلغها الماء ارتفعت حتى بلغت ثلثيه، فلما بلغها الماء ذهبت حتى استوت على الجبل، فلما بلغ الماء رقبتها رفعت الصبيّ بيديها حتى ذهب بهما الماء، فلو رحم الله تعالى منهم أحداً لرحم هذه المرأة. وما قيل من أنّ الماء طبق ما بين السماء والأرض وكانت السفينة تجري في جوفه كما تسبح السمكة فليس بثابت. قال البيضاويّ : والمشهور أنه علا شوامخ الجبال خمسة عشر ذراعاً. فإن صح، أي : أنه طبق ما بين السماء والأرض فلعل ذلك أي : ما ذكر من علو الموج قبل التطبيق ﴿ونادى نوح ابنه﴾ كنعان وكان كافراً كما مرّ، وقيل : اسمه يام ﴿وكان في معزل﴾ عزل فيه نفسه إمّا عن أبيه أو دينه ولم يركب معه، وإمّا
٦٦
عن السفينة، وإمّا عن الكفار كأنه انفرد عنهم. وظنّ نوح عليه السلام أنّ ذلك إنما كان لأنه أحب مفارقتهم ولذلك ناداه بقوله ﴿يا بني اركب معنا﴾ في السفينة. وقرأ عاصم بفتح الياء اقتصاراً على الفتح من الألف المبدلة ياء الإضافة في قولك يا بنيا. والباقون بالكسر في الوصل ليدل على ياء الإضافة المحذوفة كما قال الشاعر :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٦
يا ابنة عم لا تلومي واهجعي
ثم حذف الألف للتخفيف ﴿ولا تكن مع الكافرين﴾ أي : في دين ولا مكان فتهلك. ولما قال له ذلك.
﴿قال سآوي﴾ أي : ألتجئ وأصير ﴿إلى جبل يعصمني﴾ أي : يمنعني ﴿من الماء قال﴾ له نوح عليه السلام :﴿لا عاصم﴾ أي : لا مانع ﴿اليوم من أمر الله﴾ أي : من عذابه وقوله ﴿إلا من رحم﴾ استثناء منقطع كأنه قيل : ولكن من رحمه الله فهو المعصوم كقوله تعالى :﴿ما لهم به من علم إلا اتباع الظنّ﴾ (النساء، ١٥٧) وقيل :﴿إلا من رحم﴾ أي : إلا الراحم وهو الله تعالى، وقيل : إلا مكان من رحمه الله تعالى فإنه مانع من ذلك وهو السفينة. ﴿وحال بينهما﴾ أي : بين نوح وابنه أو بين ابنه والجبل ﴿الموج﴾ المذكور في قوله موج كالجبال ﴿فكان﴾ ابنه ﴿من المغرقين﴾ أي : فصار من المهلكين بالماء.
﴿و﴾ لما تناهى الطوفان وأغرق قوم نوح ﴿قيل﴾ أي : قال الله تعالى أو ملك بأمره تعالى ﴿يا أرض ابلعي ماءك﴾ أي : اشربيه ﴿ويا سماء أقلعي﴾ أي : أمسكي ماءك، ناداهما بما ينادى به الحيوان المميز على لفظ التخصيص والإقبال عليهما بالخطاب من بين سائر المخلوقات ثم أمرهما بما يؤمر به أهل التمييز والعقل تمثيلاً لكمال انقيادهما لما يشاء تكوينه فيهما، وههنا همزتان مختلفتان من كلمتين الأولى مضمومة والثانية مفتوحة. قرأ أبو عمرو ونافع وابن كثير بإبدال الثانية واواً خالصة والباقون بالتخفيف ﴿وغيض الماء﴾ أي : نقص وذهب، وقرأ هشام والكسائي بإشمام الغين وهو ضم الغين قبل الياء والباقون بالكسر وكذا وقيل :﴿وقضي الأمر﴾ أي : وأنجز ما وعد من إهلاك الكافرين وإنجاء المؤمنين ﴿واستوت﴾ أي : استقرّت السفينة ﴿على الجودي﴾ وهو جبل بالجزيرة قريب من الموصل. وقيل، أي : قال الله تعالى أو ملك بأمره تعالى :﴿بعداً﴾ أي : هلاكاً ﴿للقوم الظالمين﴾ ومجيء أخباره على الفعل المبني للمفعول للدلالة على الجلال والكبرياء وأنّ تلك الأمور العظام لا تكون إلا بفعل فاعل قادر وبكون مكون قاهر، وأن فاعلها واحد لا يشارك في أفعاله فلا يذهب الوهم إلى أن يقول غيره :﴿يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي﴾ ولا أن يقضي ذلك الأمر الهائل غيره ولا أن تستوي على متن الجودي وتستقر عليه إلا بتسويته وإقراره.
وروي أنّ السفينة لما استقرت بعث نوح عليه السلام الغراب ليأتيه بخبر الأرض فوقع على جيفة فلم يرجع، فبعث الحمامة فجاءت بورق زيتون في منقارها، ولطخت رجليها بالطين فعلم نوح أنّ الماء قد نقص، فقيل : إنه دعا على الغراب بالخوف فلذا لا يألف البيوت، وطوّق الحمامة الخضرة التي في عنقها ودعا لها بالأمان فمن ثم تألف البيوت. وروي أنّ نوحاً ركب السفينة لعشر
٦٧


الصفحة التالية
Icon