مضت من رجب وجرت بهم السفينة ستة أشهر ومرّت بالبيت العتيق، وقد رفعه الله تعالى من الغرق وبقي موضعه، فطافت به السفينة سبعاً. وأودع الحجر الأسود في جبل أبي قبيس، وهبط نوح ومن معه في السفينة يوم عاشوراء فصامه نوح وأمر من معه بصيامه شكراً لله تعالى. وبنوا قرية بقرب الجبل وسميت سوق ثمانين فهي أوّل قرية عمرت على وجه الأرض بعد الطوفان. وقيل : إنه لم ينج أحد من الكفار من الغرق غير عوج بن عنق وكان الماء يصل إلى حجزته وهذا لا يأتي على القول بإطباق الماء. قال هذا القائل : وسبب نجاته أنّ نوحاً احتاج إلى خشب ساج للسفينة فلم يمكنه نقله، فحمله عوج إليه من الشام فنجاه الله تعالى من الغرق بذلك. فإن قيل : كيف أغرق الله تعالى من لم يبلغ الحلم من الأطفال ؟
أجيب : بأنه تعالى يتصرف في خلقه لا يسئل عما يفعل. وقيل : إنّ الله تعالى أعقم أرحام نسائهم أربعمائة سنة فلم يولد لهم تلك المدّة.
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٦
ونادى نوح ربه﴾
أي : دعاه وسأله ﴿فقال رب إنّ ابني من أهلي﴾ وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي ﴿وإن وعدك الحق﴾ أي : الصدق الذي لا خلف فيه ﴿وأنت أحكم الحاكمين﴾ لأنك أعلمهم وأعدلهم.
فإن قيل : إذا كان النداء هو قوله ربّ فكيف عطف قال رب على نادى بالفاء ؟
أجيب : بأن الفاء تفصيل لمجمل نادى، مثلها في : توضأ فغسل. وقيل : نادى، أي : أراد نداءه فقال رب.
﴿قال﴾ الله تعالى له ﴿يا نوح إنه﴾ أي : هذا الابن الذي سألت نجاته ﴿ليس من أهلك﴾ أي : المحكوم بنجاتهم لإيمانهم وكفره، ولهذا علل بقوله تعالى :﴿إنه عمل غير صالح﴾ وقرأ الكسائي بكسر الميم ونصب اللام بغير تنوين ونصب الراء، أي : عمل الكفر والتكذيب وكل هذا غير صالح والباقون بفتح الميم ورفع اللام منونة ورفع الراء، أي : ذو عمل غير صالح أو صاحب عمل غير صالح، فجعل ذات العمل للمبالغة كقول الخنساء تصف ناقة ترتع :
*فإنما هي إقبال وإدبار
واختلف علماء التفسير هل كان ذلك الولد ابن نوح أو لا على أقوال : الأوّل : وهو قول ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك والأكثرين : إنه ابنه حقيقة ويدل عليه أنه تعالى نص عليه فقال :﴿ونادى نوح ابنه﴾ ونوح أيضاً نص عليه فقال :﴿يا بنيّ﴾ وصرف هذا اللفظ إلى أنه رباه وأطلق عليه اسم الابن لهذا السبب صرف للكلام عن حقيقته إلى مجازه من غير ضرورة. القول الثاني : أنه كان ابن امرأته وهو قول محمد بن علي الباقر، وقول الحسن البصري. والقول الثالث : وهو قول مجاهد والحسن : أنه ولد حنث ولد على فراشه ولم يعلم نوح بذلك، واحتج هذا القائل بقوله تعالى في امرأة نوح وامرأة لوط ﴿فخانتاهما﴾ (التحريم، ١٠). قال الرازي : وهذا قول واهٍ حيث يجب صون منصب الأنبياء عن هذه الفضيحة لا سيما وهو خلاف نص القرآن. وقد قيل لابن
٦٨
عباس : ما كانت تلك الخيانة ؟
فقال : كانت امرأة نوح تقول : زوجي مجنون، وامرأة لوط تدل الناس على ضيفه إذا نزل به. ﴿فلا تسألني ما ليس لك به علم﴾ أي : بما لا تعلم أصواب هو أم لا ؟
لأنّ اللائق بأمثالك من أولي العزم بناء أمورهم على التحقيق. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر بفتح اللام وتشديد النون والباقون بسكون اللام وتخفيف النون وأثبت الياء بعد النون. في الوصل دون الوقف ورش وأبو عمرو وحذفها الباقون وقفاً ووصلاً ﴿إني أعظك﴾ أي : بمواعظي كراهة ﴿أن تكون من الجاهلين﴾ فتسأل كما يسألون. وإنما سمى نداءه سؤالاً لتضمن ذكر الوعد بنجاة أهله واستنجازه في شأن ولده.
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٦
قال﴾
نوح ﴿رب إني أعوذ بك أن﴾ أي : من أن ﴿أسألك﴾ في شيء من الأشياء ﴿ما ليس لي به علم﴾ تأدباً بأدبك واتعاظاً بوعظك ﴿وإلا تغفر لي﴾ أي : الآن ما فرط مني وفي المستقبل ما يقع مني ﴿وترحمني﴾ أي : تستر زلاتي وتمحها وتكرمني ﴿أكن من الخاسرين﴾ أي : الغريقين في الخسارة. فإن قيل : هذا يدل على عصمة الأنبياء لوقوع هذه الزلة من نوح عليه السلام ؟
أجيب : بأنّ الزلة الصادرة من نوح إنما هي كونه لم يستقص ما يدل على نفاق ابنه وكفره ؛ لأنّ قومه كانوا على ثلاثة أقسام : كافر يظهر كفره، ومؤمن يخفي إيمانه، ومنافق لا يعلم حاله في نفس الأمر. وقد كان حكم المؤمنين هو النجاة وحكم الكافرين هو الغرق، وكان ذلك معلوماً، وأما أهل النفاق فبقي أمرهم مخفياً، وكان ابن نوح منهم، وكان يجوز فيه كونه مؤمناً، وكانت الشفقة المفرطة التي تكون للأب في حق الابن تحمله على حمل أعماله وأفعاله لا على كونه كافراً بل على الوجوه الصحيحة فأخطأ في ذلك الاجتهاد كما وقع لآدم عليه السلام في الأكل من الشجرة فلم يصدر عنه إلا الخطأ في الاجتهاد، فلم تصدر منه معصية، فلجأ إلى ربه تعالى وخشع له ودعاه وسأله المغفرة والرحمة كما قال آدم عليه السلام :﴿ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين﴾ (الأعراف، ٢٣) لأنّ حسنات الأبرار سيئات المقرّبين.


الصفحة التالية
Icon