ويكنى بالفتى والفتاة عن العبد والأمة، وفي الحديث عن رسول الله ﷺ "ليقل أحدكم فتاي وفتاتي ولا يقل عبدي وأمتي" ﴿إن أردن تحصناً﴾ أي : تعففاً عنه وهذه الإرادة محل الإكراه فلا مفهوم للشرط ؛ لأن الإكراه لا يتصور إلا عند إرادة التحصن، فأما إذا لم ترد المرأة التحصن فإنها بغي الطبع طوعاً، وكلمة إن وإيثارها على إذا إيذان بأن الباغيات كن يفعلن ذلك برغبة وطواعية منهن وأن ما وجد من معاذة ومسيكة من حيز الشاذ النادر ولأن الكلام ورد على سبب، وهو الذي ذكر في سبب نزول الآية، فخرج النهي على صورة صفة السبب وإن لم تكن شرطاً فيه، وقال الحسين بن الفضل : في الآية تقديم وتأخير تقديرها : وأنكحوا الأيامى منكم إن أردن تحصناً، ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ﴿لتبتغوا عرض الحياة الدنيا﴾ أي : تطلبوا من أموال الدنيا بكسبهن وأولادهن ﴿ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور﴾ أي : لهن ﴿رحيم﴾ بهن، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال لهن : والله لهن أي : لا للمكره إلا إذا تاب.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٨٦
فإن قيل : إن المكرهة غير آثمة فلا حاجة إلى المغفرة ؟
أجيب : بأن الزنا لا يباح بالإكراه فهي آثمة لكن لا حد عليها للإكراه.
٦٨٩
ولما ذكر تعالى في هذه السورة هذه الأحكام وصف القرآن بصفات ثلاث :
أحدها : قوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٨٦
﴿ولقدأنزلنا إليكم آيات مبينات﴾ أي : الآيات التي بينت في هذه السورة وأوضحت فيها الأحكام والحدود، وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بكسر الياء التحتية والباقون بفتحها ؛ لأنها واضحات تصدقها الكتب المتقدمة والعقول السليمة من بين بمعنى تبين أو لأنها بينت الأحكام والحدود.
ثانيها : قوله تعالى :﴿ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم﴾ أي : من جنس أمثالهم، أي : وقصة عجيبة مثل قصصهم وهي قصة عائشة رضي الله تعالى عنها، فإنها كقصة يوسف ومريم عليهما السلام.
ثالثها قوله تعالى :﴿وموعظة للمتقين﴾ أي : ما وعظ به في قوله تعالى :﴿ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله﴾ (النور، ٢)، وقوله تعالى :﴿لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون﴾ (النور، ١٢)
إلخ، وفي قوله تعالى :﴿لولا إذ سمعتموه قلتم﴾ (النور، ١٦)
إلخ، وفي قوله تعالى :﴿يعظكم الله أن تعودوا﴾ (النور، ١٧)
إلخ وتخصيصها بالمتقين لأنهم المنتفعون بها، واختلف في معنى قوله تعالى :
﴿الله نور السموات والأرض﴾ فقال ابن عباس : الله هادي أهل السموات والأرض فهم بنوره إلى الحق يهتدون وبهدايته من حيرة الضلال ينجون، وقال الضحاك : منور السموات والأرض، فقال : نور السماء بالملائكة، ونور الأرض بالأنبياء، وقال مجاهد : مدبر الأمور في السموات والأرض، وقال أبي بن كعب والحسن وأبو العالية : مزين السموات والأرض ؛ زين السماء بالشمس والقمر والنجوم، وزين الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين، ويقال : بالنبات والأشجار، وقيل : معناه الأنوار كلها منه ؛ كما يقال : فلان رحمة أي : منه الرحمة وقد يذكر مثل هذا اللفظ على طريق المدح كما قال القائل :
*إذ سار عبد الله من مرو ليلة
** فقد سار منها نورها وجمالها
٦٩٠
وسبب هذا الاختلاف أن النور في الأصل كيفية تدركها الباصرة أولاً وبواسطتها سائر المبصرات كالكيفية الفائضة من النيران على الأجرام الكثيفة المحاذية لها وهو بهذا المعنى لا يصح إطلاقه على الله تعالى إلا على ضرب من التجوز كالأمثلة المتقدمة أو على تقدير مضاف كقولك : زيد كرم وجود، ثم تقول : ينعش الناس بكرمه وجوده، والمعنى ذو نور السموات والأرض ونور السموات والأرض الحق شبه بالنور في ظهوره وبيانه كقوله تعالى :﴿الله وليّ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور﴾ (البقرة، ٢٥٧)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٩٠
أي : من الباطل إلى الحق، وأضاف النور إلى السموات والأرض لأحد معنيين إما للدلالة على سعة إشراقه وفشوّ إضاءته حتى تضيء له السموات والأرض، وإما أن يراد أهل السموات والأرض وأنهم يستضيئون به، واختلف أيضاً في معنى قوله تعالى :﴿مثل نوره﴾ فقال ابن عباس : مثل نوره الذي أعطى المؤمن أي : مثل نور الله في قلب المؤمن وهو النور الذي يهتدي به كما قال تعالى :﴿فهو على نور من ربه﴾ (الزمر، ٢٢)، وقال الحسن وزيد بن أسلم : أراد بالنور القرآن، وقال سعيد بن جبير والضحاك : هو محمد ﷺ وقيل : أراد بالنور : الطاعة سمى طاعة الله نوراً، وأضاف هذه الأنوار إلى نفسه تفضلاً أي : صفة نوره العجيبة الشأن في الإضاءة ﴿كمشكاة﴾ أي : كصفة مشكاة وهي الكوة في الجدار غير النافذة ﴿فيها مصباح﴾ أي : سراج ضخم ثاقب ﴿المصباح في زجاجة﴾ أي : قنديل من زجاج شامي أزهر وإنما ذكر الزجاجة ؛ لأن النور وضوء النهار فيها أبين من كل شيء وضوءه يزيد في الزجاج.