والباقون بتنوين سحاب، وظلمات بالرفع فيهما ﴿إذا أخرج﴾ أي : الكافر في هذا البحر بدلالة المعنى، وإن لم يجرِ له ذكر ﴿يده﴾ وهي أقرب ما يرى إليه في هذه الظلمات ﴿لم يكد﴾ أي : الكائن فيه ﴿يراها﴾ أي : لم يقرب من رؤيتها فضلاً عن أن يراها كقول ذي الرمة :
إذا غير النأي (أي : البعد وفي نسخة الهجر) المحبين لم يكد
رسيس الهوى (أي : ثابته بمعنى الهوى الثابت) من حب مية يبرح
أي : يزول، والمعنى لم يقرب من البراح فضلاً عن أن يبرح.
تنبيه : في كيفية هذا التشبيه وجوه ؛ أحدها : قال الحسن : إن الله تعالى ذكر ثلاثة أنواع من الظلمة ؛ ظلمة البحر، وظلمة الأمواج، وظلمة السحاب ؛ كذا الكافر له ظلمات ثلاثة : ظلمةالاعتقاد، وظلمة القول، وظلمة العمل، ثانيها : قال ابن عباس : شبه قلبه وسمعه وبصره بهذه الظلمات الثلاث، ثالثها : أن الكافر لا يدري ولا يدري أنه لا يدري ويعتقد أنه يدري، فهذه المراتب الثلاثة شبه تلك الظلمات الثلاث، رابعها : قلب مظلم في صدر مظلم في جسد مظلم، خامسها : أن هذه الظلمات متراكمة، فكذا الكافر لشدة إصراره على كفره، قد تراكمت عليه الضلالات حتى لو ذكر عنده أظهر الدلائل لم يفهمه.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٩٣
﴿ومن لم يجعل الله﴾ أي : الملك الأعظم ﴿له نوراً فما له من نور﴾، قال ابن عباس : من لم يجعل الله له ديناً وإيماناً فلا دين له، وقيل : من لم يهده الله فلا هادي له ؛ لأنه تعالى قادر على ما يريد، ولما وصف تعالى أنوار القلوب قلوب المؤمنين وظلمات قلوب الجاهلين أتبع ذلك بدلائل التوحيد بقوله تعالى :
﴿ألم ترَ﴾ أي : تعلم علماً يشبه المشاهدة في اليقين والوثاقة بالوحي والاستدلال ﴿أن الله﴾
٦٩٦
أي : الحائز لصفات الكمال ﴿يسبح له﴾ أي : ينزهه عن كل شائبة نقص ﴿من في السموات والأرض﴾ لأن التسبيح لا يرى بالبصر بل يعلم بالقلب، وهذا استفهام والمراد به التقرير والبيان، وهذا التسبيح إما أن يكون المراد منه دلالته بخلق هذه الأشياء على كونه تعالى منزهاً عن النقائص موصوفاً بنعوت الجلال، أو يكون المراد منه في حق البعض الدلالة على التنزيه، وفي حق الباقين النطق باللسان ؛ قال الرازي : والأول أقرب ؛ لأن القسم الثاني متعذر ؛ لأن في الأرض من لا يكون مكلفاً لا يسبح بهذا المعنى، والمكلفون منهم من لا يسبح أيضاً بهذا المعنى كالكفار، وأما القسم الثالث : وهو أن يقال : إن من في السموات وهم الملائكةيسبحون باللسان، وأما الذين في الأرض فمنهم من يسبح باللسان، ومنهم من يسبح على لسان الدلالة، فهذا يقتضي استعمال اللفظ الواحد في الحقيقة والمجاز معاً وهو غير جائز أي : عند أكثر العلماء فلم يبق إلا القسم الأول وهو أن هذه الأشياء مشتركة في أن أجسامها وصفاتها دالة على تنزيه الله تعالى وقدرته وإلهيته وتوحيده وعدله، فسمي ذلك تنزيهاً توسعاً.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٩٦
فإن قيل : فالتسبيح بهذا المعنى حاصل لجميع المخلوقات، فما وجه تخصيصه ههنا بالعقلاء ؟
أجيب : بأن خلقة العقلاء أشد دلالة على وجود الصانع سبحانه وتعالى ؛ لأن العجائب والغرائب في خلقهم أكثر، وهي العقل والنطق والفهم، ولما كان أمر الطير دلالته أعجب، ولأنها قد تكون بين السماء والأرض فتكون خارجة عن حكم من فيهما خصها بالذكر من جملة الحيوان بقوله تعالى :﴿والطير صافات﴾ أي : باسطات أجنحتها في جو السماء لا شبهة في أنه لا يمسكها إلا الله تعالى وإمساكه لها في الجو مع أنها أجرام ثقيلة وإقداره لها فيه على القبض والبسط حجة قاطعة على كمال قدرته تعالى.
واختلف في عود الضمائر في قوله تعالى :﴿كل﴾ أي : من المخلوقات ﴿قد علم صلاته وتسبيحه﴾ على قولين أحدهما : أنها كلها عائدة على كل أي : كل قد علم هو صلاة نفسه وتسبيحها ؛ قال ابن عادل : وهذا أولى لتوافق الضمائر، ثانيهما : أن الضمير في علم عائد إلى الله تعالى وفي صلاته وتسبيحه عائد على كل ويدل عليه قوله تعالى :﴿والله﴾ أي : المحيط علماً وقدرة ﴿عليم بما يفعلون﴾ وقيل : إن ضرب أجنحة الطير صلاته وتسبيحه، وهذا يؤيد أن المراد من التسبيح دلالة هذه الأمور على التنزيه لا النطق باللسان روي أن أبا ثابت قال : كنت جالساً عند أبي جعفر الباقر فقال لي : أتدري ما تقول هذه العصافير عند طلوع الشمس وبعد طلوعها ؟
قال : لا، قال : فإنهن يقدسن الله ربهن ويسألنه قوت يومهن ؛ قال بعض العلماء : إنا نشاهد من الطيور وسائر الحيوانات أعمالاً لطيفة يعجز عنها كثير من العقلاء، فإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يلهمها معرفته ودعاءه وتسبيحه، وبيان أنه تعالى ألهمها الأعمال اللطيفة بوجوه.
أحدها : أن الدب يرمي بالحجارة ويأخذ العصا ويرمي الإنسان حتى يتوهم أنه مات فيتركه وربما عاد يشمه ويتجسس نفسه، ويصعد الشجرة أخف صعود، ويهشم الجوز بين كفيه تفريقاً بالواحدة، وصدمة بالأخرى، ثم يفتح فاه فيذر قشره، ويتغذى به، ويحكى عن الفأر في سرقته أمور عجيبة.


الصفحة التالية
Icon