﴿لقد أنزلنا﴾ أي : في هذه السورة وما تقدمها بما لنا من العظمة ﴿آيات﴾ أي : مما لنا من الحكم والأحكام والأدلة والأمثال ﴿مبينات﴾ للحقائق بأنواع الدلائل التي لا خفاء فيها ﴿والله﴾ أي : الملك الأعظم ﴿يهدي من يشاء﴾ من عباده ﴿إلى صراط﴾ طريق ﴿مستقيم﴾ هو دين الإسلام الموصل إلى دار الحق والفوز بالجنة، ولما ذكر تعالى دلائل التوحيد أتبعه بذم قوم اعترفوا بالدين بألسنتهم ولكنهم لم يفعلوه بقلوبهم، فقال تعالى :
﴿ويقولون﴾ أي : الذين ذمهم الله تعالى :﴿آمنا بالله﴾ أي : الذي أوضح لنا جلاله وعظمته وكماله ﴿وبالرسول﴾ أي : الذي علمنا كمال رسالته وعمومها بما قام عليها من الأدلة ﴿وأطعنا﴾ أي : وأوجدنا الطاعة لله ولرسوله، ثم عظم المخالفة بين الفعل والقول بأداة البعد فقال تعالى :﴿ثم يتولى﴾ أي : يرتد بإنكار القلب، ويعرض عن طاعة الله ورسوله ضلالاً منهم عن الحق ﴿فريق منهم﴾ أي : ناس يقصدون الفرقة من هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة ﴿من بعد ذلك﴾ أي : القول السديد المؤكد مع الله الذي هو أكبر من كل شيء، ومع رسوله الذي هو أشرف الخلائق ﴿وما أولئك﴾ أي : البعداء البغضاء الذين صاروا بتوليهم في محل البعد ﴿بالمؤمنين﴾ أي : المعهودين الموافقة قلوبهم ألسنتهم فإن قيل : إنه تعالى حكى عن كلهم أنهم يقولون : آمنا، ثم حكى عن فريق منهم التولي، فكيف يصح أن يقول في جميعهم : وما أولئك بالمؤمنين مع أن المتولي فريق ؟
أجيب : بأن قوله تعالى :﴿وما أولئك بالمؤمنين﴾ راجع إلى الذين تولوا لا إلى الجملة الأولى، ولو رجع إلى الجملة الأولى لصح، ويكون معنى قوله تعالى :﴿ثم يتولى فريق منهم﴾ أي : يرجع عن هذا الفريق إلى الباقي، فيظهر بعضهم لبعض الرجوع كما أظهروه بينهم، ولما فضحهم بما أخفوه من توليهم قبح عليهم ما أظهروه فقال تعالى معبراً بأداةالتحقيق :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٧٠١
وإذا دعوا﴾
أي : الفريق الذين ادعوا الإيمان من أيّ داعٍ كان ﴿إلى الله﴾ أي : إلى ما نصب
٧٠١
الملك الأعظم من أحكامه ﴿ورسوله﴾ وأفرد الضمير في قوله تعالى :﴿ليحكم﴾ وقد تقدمه اسمان وهما الله ورسوله، فهو كقوله تعالى :﴿والله ورسوله أحق أن يرضوه﴾ (التوبة، ٦٢)
؛ لأن حكم رسوله هو حكمه. قال الزمخشري : كقولك : أعجبني زيد وكرمه، تريد كرم زيد ومنه قوله :
*ومنهل من الفلافي أوسطه
** غلسته قبل القطا وفرّطه
أي : قبل فرط القطا ﴿بينهم﴾ أي : بما أراه الله ﴿إذا فريق منهم﴾ أي : ناس مجبولون على الأذى ﴿معرضون﴾ أي : فاجؤوا الإعراض إذا كان الحق عليهم لعلمهم بأنك لا تحكم لهم وهو شرح للتولي ومبالغة فيه.
﴿وإن يكن لهم﴾ أي : على سبيل الفرض ﴿الحق﴾ أي : بلا شبهة ﴿يأتوا إليه﴾ أي : الرسول ﴿مذعنين﴾ أي : منقادين لعلمهم بأنه يحكم لهم لأنهم يعلمون أنه دائر مع الحق لهم وعليهم، فليس انقيادهم لطاعة الله ورسوله.
تنبيه : قوله تعالى :﴿إليه﴾ يجوز تعليقه بيأتوا لأن أتى وجاء قد يتعديان بإلى، ويجوز أن يتعلق بمذعنين ؛ لأنه بمعنى مسرعين في الطاعة، وصححه الزمخشري قال : لتقدم صلته ودلالته على الاختصاص ومذعنين حال، ثم قسم تعالى الأمر في عدولهم عن حكومته ﷺ إذا كان الحق عليهم بين أن يكونوا مرضى القلوب بقوله تعالى :
﴿أفي قلوبهم مرض﴾ أي : نوع فساد من أصل الفطرة يحملهم على الضلال، أو مرتابين في نبوته بقوله تعالى :﴿أم ارتابوا﴾ أي : بأن رأوا منك تهمة فزالت ثقتهم ويقينهم بك أو خائفين الحيف في قضائه بقوله تعالى :﴿أم يخافون أن يحيف﴾ أي : يجور ﴿الله﴾ أي : الغني عن كل شيء لأن له كل شيء ﴿عليهم ورسوله﴾ أي : الذي لا ينطق عن الهوى، ثم أضرب عن القسمين الأخيرين لتحقيق القسم الأول بقوله تعالى :﴿بل أولئك﴾ أي : البعداء البغضاء ﴿هم الظالمون﴾ أي : الكاملون في الظلم، ووجه التقسيم أن امتناعهم إما لخلل فيهم أو في الحاكم، والثاني : إما أن يكون محققاً عندهم أو متوقعاً، وكل منهما باطل لأن منصب نبوته وفرط أمانته تمنعه فتعين الأول فظلمهم يعم خلل عقيدتهم وميل نفوسهم إلى الحيف وضمير الفصل لنفي ذلك عن غيرهم فإن قيل : إذا خافوا أن يحيف الله عليهم ورسوله فقد ارتابوا في الدنيا، وإذا ارتابوا ففي قلوبهم مرض والكل واحد فأي فائدة في التعديد ؟


الصفحة التالية
Icon