أجيب : بأن قوله تعالى :﴿في قلوبهم مرض﴾ أشار به إلى النفاق، وقوله تعالى :﴿أم ارتابوا﴾ إشارة إلى أنهم بلغوا في حب الدنيا حيث يتركون الدين بسببه فإن قيل : هذه الثلاثة متغايرة ولكنها متلازمة فكيف أدخل عليها كلمة أم ؟
أجييب بأنه تعالى نبههم على كل واحد من هذه الأوصاف فكان في قلوبهم مرض وهو النفاق وكان فيها شك وارتياب وكانوا يخافون الحيف من الرسول، وكل واحد من ذلك كفر ونفاق، واختلفوا في سبب نزول هذه الآية، فقال مقاتل : نزلت في بشر المنافق وكان قد خاصم يهودياً في أرض، فقال اليهودي : نتحاكم إلى محمد ﷺ وقال المنافق : نتحاكم إلى كعب بن الأشرف فإن محمداً يحيف علينا، فأنزل الله تعالى هذه الآية وقد
٧٠٢
مضت قصتها في سورة النساء.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٧٠١
وقال الضحاك : نزلت في المغيرة بن وائل كان بينه وبين علي رضي الله تعالى عنه أرض تقاسماها فوقع إلى علي ما لا يصيبه الماء إلا بمشقة فقال المغيرة : بعني أرضك فباعه إياها وتقابضا، فقيل للمغيرة : أخذت سبخة لا ينالها الماء، فقال لعلي : اقبض أرضك فإنما أشتريتها إن رضيتها ولم أرضها، فقال علي : بل اشتريتها ورضيتها وقبضتها وعرفت حالها لا أقبلها منك، ودعاه إلى أن يخاصمه إلى رسول الله ﷺ فقال المغيرة : أما محمد فلا نأتيه ولا أحاكم إليه فإنه يبغضني وأنا أخاف أن يحيف عليّ، فنزلت الآية.
وقال الحسن : نزلت في المنافقين الذين كانوا يظهرون الإيمان ويسرون الكفر، ولما نفى تعالى عنهم الإيمان الكامل بما وصفهم به كان كأنه سئل عن حال المؤمنين، فقال تعالى :
﴿إنما كان﴾ أي : دائماً ﴿قول المؤمنين﴾ أي : العريقين في ذلك الوصف ﴿إذا دعوا﴾ أي : من أي داع كان ﴿إلى الله﴾ أي : إلى ما أنزل الملك الذي لا كفء له من أحكامه ﴿ورسوله﴾ الذي لا ينطق عن الهوى ﴿ليحكم﴾ أي : الرسول ﴿بينهم﴾ بما أراه الله تعالى أي حكومة من الحكومات لهم أو عليهم ﴿أن يقولوا سمعنا﴾ أي : الدعاء ﴿وأطعنا﴾ أي : بالإجابة لله ولرسوله ﷺ وهذا ليس على طريق الخبر ولكنه تعليم أدب الشرع بمعنى أن المؤمنين ينبغي أن يكونوا هكذا ﴿وأولئك﴾ أي : العالوا الرتبة ﴿هم المفلحون﴾ الذين وصفهم الله تعالى في أول المؤمنين، وهذا يدل على عادته تعالى في اتباع ذكر المحق المبطل والتنبيه على ما ينبغي بعد إنكاره لما لا ينبغي، ولما رتب تعالى الفلاح على هذا النوع الخاص أتبعه عموم الطاعة بقوله تعالى :
﴿ومن يطع الله﴾ أي : الذي له الأمر كله ﴿ورسوله﴾ أي : فيما ساءه وسره ﴿ويخش الله﴾ أي : فيما صدر عنه من الذنوب في الماضي ليحمله ذلك على كل خير ﴿ويتقه﴾ أي : الله فيما بقي من عمره بأن يجعل بينه وبين ما يسخطه وقاية من المباحات فيتركها ورعاً ﴿فأولئك﴾ أي : العالوا الرتبة ﴿هم الفائزون﴾ بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من النعيم المقيم، وعن ابن عباس في تفسير هذه الآية ومن يطع الله في فرائضه ورسوله في سننه ويخش الله على ما مضى من ذنوبه ويتقه فيما يستقبل، وعن بعض الملوك أنه سأل عن آية كافية فتليت عليه هذه الآية.
وقرأ أبو عمرو وشعبة وخلاد ويتقه بسكون الهاء بخلاف عن خلاد وقالون باختلاس كسرة الهاء وحفص بسكون القاف، وقصر كسرة الهاء، والباقون وخلاد في أحد وجهيه بإشباع كسرة الهاء، ولما ذكر تعالى ما رتب على الطاعة الظاهرة التي هي دليل الانقياد الباطن ذكر حال المنافقين بقوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٧٠١
٧٠٣
﴿وأقسموا بالله﴾ أي : الذي له الكمال المطلق، وقوله تعالى :﴿جهد أيمانهم﴾ مستعار من جهد نفسه إذا بلغ أقصى وسعها، وذلك إذا بالغ في اليمين وبلغ غاية شدتها ووكادتها، وعن ابن عباس : من قال بالله فقد بالغ في اليمين، وبلغ غاية شدتها ﴿لئن أمرتهم﴾ أي : أمر من الأمور ﴿ليخرجن﴾ مما هم متلبسون به من خلافه كائناً ما كان، وذلك أن المنافقين كانوا يقولون لرسول الله ﷺ أينما كنت نكن معك لئن خرجت خرجنا ولئن أقمت أقمنا، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا، فقال الله تعالى :﴿قل﴾ أي : لهم ﴿لا تقسموا﴾ أي : لا تحلفوا فإن العلم بما أنتم عليه لا يحتاج إلى الإقسام، وههنا قد تم الكلام، ولو كان قسمهم صادقاً لما نهوا عنه ؛ لأن من حلف على القيام بالبر لا ينهى عنه، فثبت أن قسمهم كان لنفاقهم، وكان باطنهم يخالف ظاهرهم، ومن نوى الغدر لا الوفاء فقسمه قبيح ؛ قال المتنبي :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٧٠٣
وفي اليمين على ما أنت واعده
** ما دل أنك في الميعاد متهم
وفي رفع قوله تعالى :﴿طاعة معروفة﴾ ثلاثة أوجه :


الصفحة التالية
Icon