قوله :﴿اللاتي لا يرجون نكاحاً﴾ أي : لا يردن الرجال لكبرهن، قال ابن منبه : سميت المرأة قاعداً إذا كبرت ؛ لأنها تكثر القعود، وقال ربيعة : هن العجز اللواتي إذا رآهن الرجل استقذرهن، فأما من كان فيها بقية من جمال وهي محل الشهوة فلا تدخل في هذه الآية ﴿فليس عليهن جناح﴾ أي : حرج في ﴿أن يضعن ثيابهن﴾ أي : الظاهرة فوق الثياب الساترة بحضرة الرجال كالجلباب والرداء والقناع فوق الخمار، أما الخمار فلا يجوز وضعه لما فيه من كشف العورة ﴿غير متبرجات بزينة﴾ أي : من غير أن يردن بوضع الجلباب والرداء إظهار زينتهن، ثم إن الزينة الخفية في قوله تعالى :﴿ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن﴾ أو غير قاصدات بالوضع التبرج، والتبرج هو أن تظهر المرأة محاسن ما ينبغي لها أن تستره، ولما ذكر الله تعالى الجائز عقبه بالمستحب بعثاً منه على اختيار أفضل الأعمال وأحسنها بقوله تعالى :﴿وأن يستعففن﴾ أي : فلا يلقين الرداء أو الجلباب ﴿خير لهن﴾ من الإلقاء كقوله تعالى :﴿وأن تعفوا أقرب للتقوى﴾، ﴿وأن تصدقوا﴾ لأنه أبعد عن التهمة ﴿والله﴾ أي : الذي جلت عظمته ﴿سميع﴾ لقولكم ﴿عليم﴾ بما في قلوبكم، واختلف في سبب نزول قوله تعالى :
﴿ليس على الأعمى حرج﴾ أي : في مؤاكلة غيره ﴿ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج﴾ كذلك، فقال ابن عباس لما أنزل الله تعالى :﴿يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل﴾ : تحرج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والزمني والعمى والعرج، وقالوا : الطعام أفضل الأموال، وقد نهى الله تعالى عن أكل المال بالباطل، والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب، والأعرج لا يتمكن من الجلوس ولا يستطيع المزاحمة على الطعام، والمريض يضعف عن التناول فلا يستوفي من الطعام حقه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وعلى هذا تكون على بمعنى في ؛ أي : ليس في الأعمى أي : ليس عليكم في مؤاكلة الأعمى والأعرج والمريض حرج.
وقال سعيد بن جبير والضحاك وغيرهما : كان العرجان والعميان والمرضى يتنزهون عن مؤاكلة الأصحاء ؛ لأن الناس يستقذرون منهم ويكرهون مؤاكلتهم، وعن عكرمة : كانت الأنصار في أنفسها قزازة فكانت لا تأكل من هذه البيوت إذا استغنوا، وكان هؤلاء يقولون : الأعمى ربما أكل أكثر، وربما سبقت يده إلى ما سبقت عين آكليه إليه، وهو لا يشعر، والأعرج ربما أخذ في مجلسه مكان اثنين فيضيق على جليسه، و المريض لا يخلو من رائحة تؤذي أو جرح يبض أو نحو ذلك فنزلت، وقال مجاهد : نزلت الآية ترخيصاً لهؤلاء في الأكل من بيوت من سمى الله في هذه الآية، وذلك أن هؤلاء كانوا يدخلون محل الرجل لطلب الطعام، فإذا لم يكن عنده ما يطعمهم ذهب بهم إلى بيت أبيه وبيت أمه، وبعض من سمى الله تعالى في هذه الآية، فكان أهل الزمانة يتحرجون من هذا الطعام ويقولون : ذهب بنا إلى بيت غيره فنزلت الآية.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٧٠٩
وقال سعيد بن المسيب : كان المسلمون إذا غزوا غلقوا منازلهم ويدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون : قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، فكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون : لا ندخلها وهم غيب، فأنزل الله تعالى هذه الآية رخصة لهم، وقال الحسن : نزلت رخصة لهؤلاء في التخلف عن الجهاد، وقال : تم الكلام عند قوله تعالى :﴿ولا على المريض حرج﴾، وقوله تعالى :﴿ولا على أنفسكم أن تأكلوا في بيوتكم﴾ كلام مستأنف منقطع عما قبله فإن قيل : أي فائدة في
٧١٠
إباحة أكل الإنسان طعاماً في بيته ؟
أجيب : بأن المراد من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم فيدخل فيه بيوت الأولاد ؛ لأن بيت ولده كبيته ؛ قال ﷺ "أنت ومالك لأبيك"، وقال ﷺ "إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه"، وقيل لما نزل قوله تعالى :﴿لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل﴾ ()


الصفحة التالية
Icon