﴿قالوا﴾ له ﴿يا صالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا﴾، أي : القول الذي جئت به لما نرى فيك من مخايل الرشد والسداد، فإنك كنت تعطف على فقيرنا وتعين ضعيفنا وتعود مرضانا، فقوي رجاؤنا فيك أن تنصر ديننا فكيف أظهرت العداوة ؟
. ثم إنهم أضافوا إلى هذا التعجب الشديد فقالوا :﴿أتنهانا أن نعبد ما﴾ كان ﴿يعبد آباؤنا﴾ من الآلهة، ومقصودهم بذلك التمسك بطرف التقليد ووجوب متابعة الآباء والأسلاف، ونظير هذا التعجب ما حكاه الله تعالى عن كفار مكة حيث قالوا :﴿أجعل الآلهة إلهاً واحداً إنّ هذا لشيء عجاب﴾ (ص، ٥) ثم قالوا :﴿وإننا لفي شك مما تدعونا إليه﴾ من التوحيد وترك عبادة الأصنام ﴿مريب﴾، أي : موقع في الريبة وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة باليقين، والرجاء : تعلق النفس بمجيء الخير على جهة الظنّ، ونظيره الأمل والطمع، والنهي : المنع من الفعل بصيغة لا تفعل. وقولهم هذا مبالغة في تزييف كلامه ﴿قال﴾ صالح عليه السلام مجيباً لهم ﴿يا قوم أرأيتم﴾، أي : أخبروني ﴿إن كنت على بيّنة﴾، أي : بيان وبصيرة ﴿من ربي﴾ وأتى بحرف الشك على سبيل الجزم ليلائم الخطاب حال المخاطبين ﴿وآتاني منه رحمة﴾، أي : نبوّة ورسالة ﴿فمن ينصرني﴾، أي : يمنعني ﴿من الله﴾، أي : عذابه ﴿إن عصيته﴾، أي : إن خالفت أمره في تبليغ رسالته والمنع عن الإشراك به ﴿فما تزيدونني﴾، أي : بأمركم لي بذلك ﴿غير تخسير﴾، أي : غير تضليل. قال الحسن بن الفضل : لم يكن صالح في خسارة حتى يقول فما تزيدونني غير تخسير، وإنما المعنى فما تزيدونني بما تقولون إلا نسبتي إياكم إلى الخسارة. ولما كانت العادة فيمن يدعي النبوّة عند قوم يعبدون الأصنام أن يطلبوا المعجزة وأمر صالح عليه السلام. هكذا كان يروى أن قومه خرجوا في عيد لهم فسألوه أن يأتيهم بآية وأن يخرج لهم من صخرة معينة أشاروا إليها ناقة، فدعا ربه فخرجت كما سألوا. أشار إليها بقوله :﴿ويا قوم هذه ناقة الله﴾ وإضافتها إلى الله إضافة تشريف كبيت الله ﴿لكم آية﴾، أي : معجزة من وجوه : أحدها : أنه خلقها الله تعالى من الصخرة. ثانيها : أنه تعالى خلقها في جوف الجبل ثم شق الجبل عنها. ثالثها : أنه تعالى خلقها حاملاً من غير ذكر ثم ولدت فصيلاً يشبهها. رابعها : أنه تعالى خلقها على تلك الصورة دفعة واحدة. خامسها : ما روي أنه كان لها شرب يوم ولكل القوم شرب يوم آخر. سادسها : أنه كان يحصل منها لبن كثير فيكفي الخلق العظيم به، فكل واحد من هذه الوجوه معجز قويّ، وليس في القرآن إلا أنّ هذه الناقة كانت آية معجزة، وأمّا بيان أنها كانت آية معجزة من أي الوجوه فليس فيه بيانه.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٧٤
تنبيه : آية نصب على الحال وعاملها معنى الإشارة ولكن حال منها تقدّمت عليها لتنكيرها ولو تأخرت لكانت صفة لها فلما تقدّمت انتصبت على الحال ثم قال لهم :﴿فذروها﴾، أي : اتركوها على، أي : حالة كان ترككم لها ﴿تأكل﴾ مما أرادت ﴿في أرض الله﴾ من العشب والنبات فليس عليكم مؤنتها فصارت مع كونها آية لهم تنفعهم ولا تضرّهم ؛ لأنهم كانوا ينتفعون بلبنها ثم إنه عليه السلام خاف عليها منهم لما شاهد من إصرارهم على الكفر فإنّ الخصم لا يحب ظهور حجة خصمه بل يسعى في إخفائها وإبطالها بأقصى الإمكان، فلهذا السبب كان يخاف من إقدامهم على قتلها فلهذا احتاط وقال :﴿ولا تمسوها بسوء﴾، أي : بعقر أو غيره ثم توعدهم بقوله :﴿فيأخذكم﴾ إن مسستموها بسوء ﴿عذاب قريب﴾، أي : في الدنيا لا يتأخر عن مسكم لها إلا يسيراً وذلك تحذير شديد لهم في الإقدام على قتلها فخالفوه.
٧٥
﴿فعقروها﴾ وذبحوها ﴿فقال﴾ لهم عند بلوغه الخبر ﴿تمتعوا﴾، أي : عيشوا ﴿في داركم﴾ والتمتع التلذذ بالمنافع والملاذ التي تدرك بالحواس وذلك لا يحصل إلا للحي. وفي المراد من الدار وجهان : أحدهما : البلد وتسمى البلد الديار لأنه يدار فيها، أي : يتصرّف فيها، يُقال ديار بكر لبلادهم. الثاني : دار الدنيا، أي : تمتعوا في الدنيا ﴿ثلاثة أيام﴾ وذلك أنهم لما عقروا الناقة أنذرهم صالح عليه الصلاة والسلام بنزول العقاب بعد هذه المدّة قال ابن عباس : إنه تعالى لما أمهلهم تلك الأيام الثلاثة فقد رغبهم في الإيمان ثم قالوا لصالح عليه السلام وما علامة ذلك ؟
قال : تصير وجوهكم في اليوم الأول مصفرة وفي الثاني محمرة وفي الثالث مسودّة ثم يأتيكم العذاب في اليوم الرابع، فلما رأوا وجوههم مسودّة أيقنوا حينئذٍ بالعذاب فتحنطوا واستعدوا للعذاب فصبحهم اليوم الرابع كما قال تعالى :﴿ذلك﴾، أي : الوعد العالي الرتبة في الصدق ﴿وعد غير مكذوب﴾، أي : فيه فاتسع في الظرف بحذف الحرف وإجرائه مجرى المفعول به كقوله : ويومٍ شهدناه أي ورب يوم شهدنا فيه سليماً وعامراً. أو غير مكذوب على المجاز أو وعد غير كذب على أنه مصدر قوله تعالى :