﴿وامرأته﴾، أي : إبراهيم سارّة وهي ابنة عمّ إبراهيم ﴿قائمة﴾ وراء الستر تسمع محاورتهم أو على رؤوسهم للخدمة فسمعت البشارة بالولد التي دل عليها فيما مضى قوله بالبشرى ﴿فضحكت﴾ سروراً من تلك البشرى لزوجها مع كبره وربما ظنته من غيرها ؛ لأنها كانت عجوزاً عقيماً فأزيل ذلك الظنّ عنها بقوله تعالى :﴿فبشرناها﴾، أي : على لسان الملائكة تشريفاً لها وتفخيماً لشأنها. ﴿بإسحاق﴾ تلده ﴿ومن وراء إسحاق يعقوب﴾، أي : يكون يعقوب عليه السلام ابنا لإسحاق عليه السلام فتعيش حتى ترى ولد ولدها. قال البقاعي : والذي يدل على هذا التقدير من أنهم بشروه بالولد قبل امرأته فسمعت فعجبت ما يأتي عن نص التوراة، وساق عن التوراة عبارة مطوّلة. وقيل : سبب سرورها زوال الخيفة أو هلاك أهل الفساد. وقيل : فضحكت فحاضت كما قال الشاعر :
*عهدي بسلمى ضاحكاً في لبانة
أي : حائضاً في جماعة من النساء.
وهذا يرد على الفراء حيث قال : ضحكت بمعنى حاضت لم نسمعه من ثقة، وقال آخر : تضحك الضبع لقتلى هذيل. أراد أنها تحيض فرحاً.
تنبيه : ههنا همزتان مكسورتان من كلمتين، قرأ قالون والبزي بتسهيل الأولى مع المد والقصر، وقرأ ورش وقنبل بتسيهل الثانية وإبدالها أيضاً حرف مد. وقرأ أبو عمرو بإسقاط أحدهما مع المد والقصر، والباقون بتحقيق الهمزتين ولا ألف بينهما.
﴿قالت يا ويلتا﴾ هذه كلمة تقال عند أمر عظيم، والألف مبدلة من ياء الإضافة. ﴿أألد وأنا عجوز﴾ وكانت ابنة تسعين سنة في قول ابن إسحاق، وقول مجاهد : تسع وتسعين سنة، ﴿وهذا بعلي﴾، أي : زوجي سُمِّيَ بذلك لأنه قيّم أمرها، وقولها ﴿شيخاً﴾ نصب على الحال. قال الواحدي : وهذا من لطيف النحو وغامضه فإنّ كلمة هذا للإشارة فكان قولها ﴿وهذا بعلي
٧٨
شيخاً﴾
قائم مقام أن يقال : أشير إلى بعلي حال كونه شيخاً، والمقصود تعريف هذه الحالة المخصوصة وهي الشيخوخة، وكان ابن مائة وعشرين سنة في قول ابن إسحاق. وقال مجاهد : مائة سنة وكان بين البشارة والولادة سنة ﴿إن هذا لشيء عجيب﴾، أي : إنّ الولد من هرمين فهو استعجاب من حيث العادة دون القدرة ولذلك
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٧٧
قالوا﴾
، أي : الملائكة لسارة ﴿أتعجبين من أمر الله﴾ منكرين عليها ذلك، أي : لا تعجبين من ذلك فإنّ الله تعالى قادر على كل شيء، وإذا أراد شيئاً كان سريعاً فإن خوارق العادات باعتبار أهل بيت النبوّة ومهبط المعجزات، وتخصيصهم بمزيد النعم والكرامات ليس بمستغرب ﴿رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت﴾، أي : بيت إبراهيم وأهل منصوب على المدح أو النداء لقصد التخصيص كقولهم : اغفر لنا أيتها العصابة وهذا على معنى الدعاء من الملائكة لهم بالخير والبركة، وفيه دليل على أنّ أزواج الرجل من أهل بيته ﴿إنه﴾ تعالى ﴿حميدٌ﴾، أي : محمود على كل حال أو فاعل ما يستوجب به الحمد ﴿مجيد﴾، أي : كثير الخير والإحسان.
القصة الخامسة : التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة قصة لوط عليه السلام المذكورة قوله تعالى :
﴿فلما ذهب عن إبراهيم الروع﴾، أي : الخوف وهو ما أوجس من الخيفة حين أنكر أضيافه واطمأن قلبه بعرفانهم ﴿وجاءته البشرى﴾ بدل الروع بالولد أخذ ﴿يجادلنا﴾، أي : يجادل رسلنا ﴿في﴾ شأن ﴿قوم لوط﴾ وجواب "لما" أخذ يجادلنا إلا أنه حذف اللفظ لدلالة الكلام عليه. وقيل : تقديره لما ذهب عن إبراهيم الروع جادلنا. فإن قيل : كيف جادل إبراهيم الملائكة مع علمه بأنهم لا يمكنهم مخالفة أمر الله وهذا منكر ؟
أجيب : بأنّ المراد من هذه المجادلة تأخير العذاب عنهم لعلهم يؤمنون ويرجعون عما هم فيه من الكفر والمعاصي، لأنّ الملائكة قالوا :﴿إنا مهلكوا أهل هذه القرية﴾ (العنكبوت، ٣١) أو أنّ مجادلته إنما كانت في قوم لوط بسبب مقام لوط فيهم، ولهذا قال إبراهيم عليه السلام : أرأيتم لو كان فيها خمسون رجلاً من المؤمنين أتهلكونها ؟
قالوا : لا قال : أو أربعون ؟
قالوا : لا. قال : فثلاثون. قالوا : لا. قال : فعشرون ؟
قالوا : لا حتى بلغ خمسة قالوا : لا. قال : أرأيتم لو كان فيها رجل مسلم أتهلكونها ؟
قالوا : لا. فعند ذلك قال : إنّ فيها لوطاً. وقد ذكر الله تعالى هذا في سورة العنكبوت، فقال :﴿ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية إنّ أهلها كانوا ظالمين، قال إنّ فيها لوطاً قالوا : نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين﴾ (العنكبوت، ٣١، ٣٢) قال ابن جريج : وكان في قرى لوط أربعة آلاف ألف، ولو كانت هذه المجادلة مذمومة لما مدحه بقوله تعالى :﴿إنّ إبراهيم لحليم﴾، أي : لا يتعجل مكافأة غيره بل يتأنى فيها فيؤخر أو يعفو. ومن هذا حاله يحب من غيره هذه الطريقة، وهذا مدح عظيم من الله تعالى لإبراهيم، ثم ضم إلى ذلك ما يتعلق بالحلم وهو قوله تعالى :﴿أوّاه﴾، أي : كثير التأوّه من الذنوب والتأسف على الناس. ﴿منيب﴾، أي : رجاع فلما أطال مجادلتهم قالوا له :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٧٧


الصفحة التالية
Icon