قال يا قوم} مستعطفاً لهم لما بينهم من عواطف القرابة منبهاً لهم على أحسن النظر فيما ساقه على سبيل الفرض ؛ والتقدير : ليكون أدعى إلى سبيل الوفاق والإنصاف ﴿أرأيتم﴾، أي : أخبروني ﴿إن كنت على بينة﴾، أي : برهان ﴿من ربي﴾ وعطف على جملة الشرط المستفهم عنه قوله :﴿ورزقني﴾ والضمير في ﴿منه﴾ لله تعالى، أي : من عنده بإعانته بلا كدّ مني في تحصيله. وعظم الرزق بقوله :﴿رزقاً حسناً﴾ جليلاً ومالاً حلالاً لم أظلم فيه أحداً، وجواب الشرط محذوف، أي : فهل يسوغ مع هذا الإنعام الجامع للسعادات الروحانية والجسمانية أن أخون في وحيه فأخالفه في أمره ونهيه، وهذا اعتذار عما أنكروا عليه من تغيير المألوف والنهي عن دين الآباء ﴿وما أريد أن أخالفكم﴾، أي : وأذهب ﴿إلى ما أنهاكم عنه﴾ فأرتكبه ﴿إن﴾، أي : ما ﴿أريد﴾، أي : فيما آمركم به وأنهاكم عنه ﴿إلا الإصلاح﴾، أي : ما أريد إلا أن أصلحكم بموعظتي ونصيحتي وأمري بالمعروف ونهي عن المنكر ﴿ما استطعت﴾، أي : وهو الإبلاغ والإنذار فقط، ولا استطيع إجباركم على الطاعة ؛ لأنّ ذلك إلى الله تعالى فإنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء ﴿وما توفيقي﴾، أي : لإصابة الحق والصواب ﴿إلا بالله﴾، أي : إلا بمعونته وتأييده ﴿عليه﴾ لا على غيره ﴿توكلت﴾، أي : اعتمدت في جميع أموري، فإنه القادر على كل شيء، وما عداه عاجز، وهذه الصيغة تفيد الحصر فلا ينبغي للإنسان أن يتوكل على أحد إلا على الله تعالى، وفيه إشارة إلى محض التوحيد الذي هو أقصى مراتب المبدأ وأمّا قوله :﴿وإليه أنيب﴾ ففيه إشارة إلى معرفة المعاد، وهو أيضاً يفيد الحصر ؛ لأنّ قوله وإليه أنيب يدل على أنه لا مآب للخلق إلا إلى الله تعالى، وروي عنه ﷺ أنه كان إذا ذكر شعيباً قال :"خطيب الأنبياء" لحسن مراجعته قومه.
﴿ويا قوم لا يجرمنكم﴾، أي : لا يكسبنكم ﴿شقاقي﴾، أي : خلافي وهو فاعل بيجرم، والضمير مفعول أوّل، والمفعول الثاني ﴿أن يصيبكم﴾ عذاب العاجلة على كفركم وأفعالكم الخبيثة. قال في "الكشاف" : جرم مثل كسب في تعديه إلى مفعول واحد وإلى مفعولين، تقول :
٨٤
جرم ذنباً وكسبه وجرمته ذنباً وكسبته إياه. ومنه قوله تعالى ﴿لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم﴾. ﴿مثل ما أصاب قوم نوح﴾ من الغرق ﴿أو قوم هود﴾ من الريح العقيم ﴿أو قوم صالح﴾ من الرجفة ﴿وما قوم لوط منكم ببعيد﴾ لا في الزمان ولا في المكان ؛ لأنهم كانوا حديثي عهد بهلاكهم، وكانوا جيران قوم لوط وبلادهم قريبة من بلادهم، فإن القرب في الزمان والمكان يفيد زيادة المعرفة وكمال الوقوف على الأحوال، فكأنه يقول : اعتبروا بأحوالهم واحذروا من مخالفة الله ومنازعته حتى لا ينزل بكم مثل ذلك العذاب. فإن قيل : لِمَ قال ببعيد ولم يقل ببعيدين ؟
أجيب : بأنّ التقدير : وما إهلاكهم بشيء بعيد، وأيضاً يجوز أن يسوى في قريب وبعيد وقليل وكثير بين المذكر والمؤنث لورودهما على زنة المصادر التي هي الصهيل والنهيق ونحوهما انتهى.
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٨٢
واستغفروا ربكم﴾، أي : آمنوا به ﴿ثم توبوا إليه﴾ عن عبادة غيره ؛ لأنّ التوبة لا تصح إلا بعد الإيمان وقد مرّ مثل ذلك. ﴿إن ربي رحيم﴾، أي : عظيم الرحمة للتائبين ﴿ودود﴾، أي : محب لهم. ولما بلغ عليه السلام في التقرير والبيان أجابوه بأنواع فاسدة.
الأوّل :﴿قالوا﴾ له ﴿يا شعيب ما نفقه﴾، أي : ما نفهم ﴿كثيراً مما تقول﴾. فإن قيل : إنه كان يخاطبهم بلسانهم فلم قالوا ﴿ما نفقه﴾ ؟
أجيب : بأنهم كانوا لا يلقون إليه أذهانهم لشدّة نفرتهم عن كلامه وهو قوله تعالى :﴿وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه﴾ أو أنهم فهموه ولكنهم ما أقاموا له وزناً، فذكروا هذا الكلام على وجه الاستهانة، كما يقول الرجل لصاحبه إذا لم يعبأ بحديثه : ما أدري ما تقول. النوع الثاني : قولهم له :﴿وإنا لنراك فينا ضعيفاً﴾، أي : لا قوّة لك فتمتنع منا إن أردناك بسوء أو ذليلاً لا عز لك، وقيل : أعمى بلغة حمير، قاله قتادة، وفي هذا تجويز العمي على الأنبياء إلا أنّ هذا اللفظ لا يحسن الاستدلال به في إثبات هذا المعنى ؛ لأنه ترك الظاهر من غير دليل، وقيل : ضعيف البصر، قاله الحسن. النوع الثالث : قولهم له :﴿ولولا رهطك﴾، أي : عشيرتك وعزتهم عندنا لكونهم على ملتنا لا لخوف من شوكتهم ﴿لرجمناك﴾ بالحجارة حتى تموت، والرهط من الثلاثة إلى عشرة، وقيل : إلى السبعة، والمقصود من هذا الكلام أنهم بينوا له أنه لا حرمة له عندهم ولا وقع له في صدورهم وأنهم إنما لم يقتلوه لأجل احترام رهطه. النوع الرابع : قولهم له :﴿وما أنت علينا بعزيز﴾، أي : لا تعز علينا ولا تكرم حتى نكرمك من القتل ونرفعك عن الرجم، وإنما يعز علينا رهطك ؛ لأنهم من أهل ديننا ولم يختاروك علينا ولم يتبعوك دوننا، ولما خوّف الكفار شعيباً عليه السلام بالقتل والإيذاء حكى الله تعالى عنهم ما ذكروه في هذا المقام وهو نوعان : الأوّل :