﴿قال﴾ لهم ﴿يا قوم﴾ مستعطفاً لهم مع غلظتهم عليه ﴿أرهطي أعز عليكم من الله﴾ المحيط بكل شيء قدرة وعلماً حتى نظرتم إليهم فيّ لقرابتي منهم، ولم تنظروا إلى الله تعالى في قربي منه لما ظهر عليّ من كرامته تعالى ﴿واتخذتموه وراءكم ظهرياً﴾، أي : جعلتموه كالمنسيّ المنبوذ وراء الظهر بإشراككم به، والإهانة لرسوله. قال في "الكشاف" : والظهريّ منسوب إلى الظهر والكسر من تغييرات النسب، ونظيره قولهم في النسبة إلى الأمس أمسيّ بكسر الهمزة، وقوله :﴿إنّ ربي بما تعملون محيط﴾، أي : إنه عليم بأحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها.
٨٥
النوع الثاني : قوله :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٨٢
ويا قوم اعملوا على مكانتكم﴾
والمكانة الحالة التي يمكن صاحبها من عمله، والمعنى : اعملوا حال كونكم موصوفين بغاية المكنة والقدرة وكل ما في وسعكم وطاقتكم من إيصال الشرور إليّ، ﴿إني﴾ أيضاً ﴿عامل﴾ بما آتاني الله من القدرة والطاعة ﴿سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب﴾ فمن موصولة مفعول العلم. فإن قيل : لم لم يقل فسوف تعلمون ؟
أجيب : بأنّ إدخال الفاء وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل وأمّا حذف الفاء فيجعله جواباً عن سؤال مقدّر وهو المسمى في علم البيان بالاستئناف البياني، تقديره أنه لما قال :﴿ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل﴾ فكأنهم قالوا : فماذا يكون بعد ذلك فقال : سوف تعلمون، فظهر أن حذف حرف الفاء ههنا أكمل في بيان الفصاحة والتهويل ؛ لأنه استئناف. ﴿وارتقبوا﴾، أي : انتظروا عاقبة أمركم ﴿إني معكم رقيب﴾، أي : منتظر، والرقيب بمعنى الراقب من رقبه كالضريب والصريم، بمعنى الضارب والصارم أو بمعنى المراقب كالعشير والنديم، أو بمعنى المرتقب كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع.
﴿ولما جاء أمرنا﴾ بعذابهم وإهلاكهم ﴿نجينا شعيباً والذين آمنوا معه برحمة﴾، أي : بفضل ﴿منا﴾ بأن هديناهم للإيمان ووفقناهم للطاعة. فإن قيل : لم جاءت قصة عاد وقصة مدين بالواو وقصة صالح ولوط بالفاء ؟
أجيب : بأنّ قصة عاد ومدين لم يسبقهما ذكر وعد يجري مجرى السبب له بخلاف قصتي صالح ولوط فإنهما ذكرا بعد الوعد وذلك قوله تعالى :﴿وعد غير مكذوب﴾ وقوله :﴿إنّ موعدهم الصبح﴾ فلذلك جاءا بفاء السببية. ﴿أخذت الذين ظلموا﴾، أي : ظلموا أنفسهم بالشرك والبخس. ﴿الصيحة﴾، أي : صيحة جبريل عليه السلام صاح بهم صيحة خرجت أرواحهم وماتوا جميعاً، وقيل : أتتهم صيحة من السماء ﴿فأصبحوا في ديارهم جاثمين﴾، أي : باركين على الركب ميتين.
﴿كأن لم يغنوا﴾، أي : كأنهم لم يقيموا ﴿فيها﴾، أي : ديارهم مدّة من الدهر، مأخوذ من قولهم : غني بالمكان إذا أقام فيه مستغنياً به عن غيره ﴿ألا بعداً﴾، أي : هلاكاً ﴿لمدين كما بعدت ثمود﴾ إنما شبههم بهم ؛ لأنّ عذابهم كان أيضاً بالصيحة لكن صيحتهم كانت من تحتهم وصيحة مدين كانت من فوقهم، قال ابن عباس : لم يعذب الله تعالى أمّتين بعذاب إلا قوم شعيب وقوم صالح ؛ فأمّا قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم، وأمّا قوم شعيب فأخذتهم الصيحة من فوقهم.
القصة السابعة : التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة وهي آخر قصصها قصة موسى عليه الصلاة والسلام المذكورة في قوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٨٢
٨٦
﴿ولقد أرسلنا موسى بآياتنا﴾ أي : التوراة مع ما فيها من الشرائع والأحكام ﴿وسلطان مبين﴾ أي : برهان بيّن ظاهر على صدق نبوّته ورسالته وقيل : المراد بالآيات المعجزات وبالسلطان المبين العصا ؛ لأنها أظهر الآيات، وذلك لأنّ الله تعالى أعطى موسى تسع آيات بينات وهي العصا واليد البيضاء والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ونقص من الثمرات والسنين، ومنهم من أبدل نقص الثمرات والسنين بإظلال الجبل وفلق البحر. قال بعض المحققين : سميت الحجة سلطاناً لأنّ صاحب الحجة يقهر من لا حجة له، كالسلطان يقهر غيره، والعلماء سلاطين بسبب كمالهم في القوّة العلمية، والملوك سلاطين بحسب ما معهم من القدرة والمكنة إلا ان سلطنة العلماء أكمل وأقوى من سلطنة الملوك ؛ لأنّ سلطنة العلماء لا تقبل النسخ والعزل وسلطنة الملوك تقبلهما ولأنّ سلطنة الملوك تابعة لسلطنة ؛ العلماء لأنّ سلطنة العلماء من جنس سلطنة الأنبياء وسلطنة الملوك من جنس سلطنة الفراعنة.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٨٦


الصفحة التالية
Icon