فإن قيل : كيف يجوز أن يكونوا أنبياء وقد أقدموا على ما أقدموا عليه في حق يوسف عليه السلام ؟
أجيب : بأنّ ذلك وقع منهم قبل النبوّة، والعصمة من المعاصي إنما تعتبر بعد النبوّة لا قبلها على خلاف فيه. ﴿كما أتمها على أبويك﴾ بالنبوّة والرسالة، وقيل : إتمام النعمة على إبراهيم عليه السلام خلاصه من النار واتخاذه خليلاً، وعلى إسحاق خلاصه من الذبح وفداؤه بذبح عظيم على قول أن إسحاق هو الذبيح. ﴿من قبل﴾، أي : من قبل هذا الزمان وقوله :﴿إبراهيم وإسحاق﴾ عطف بيان لأبويك ثم إن يعقوب عليه السلام لما وعده بهذه الدرجات الثلاثة ختم الكلام بقوله :﴿إن ربك عليم﴾، أي : بليغ العلم ﴿حكيم﴾، أي : بليغ الحكمة وهي وضع الأشياء في أتقن مواضعها.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٩٩
﴿لقد كان في﴾ خبر ﴿يوسف وإخوته﴾ وهم أحد عشر ؛ يهوذا وروبيل وشمعون ولاوي وزبلون قال البقاعي : بزاي وباء موحدة ويشجر وأمّهم ليا بنت ليان وهي ابنة خال يعقوب وولد له من سريتين إحداهما زلفى، والأخرى يلقم كذا قاله البغويّ. وقال الرازي : والأخرى بلهمة أربعة أولاد وأسماؤهم دان ونفتالى ؛ قال البقاعي : بنون مفتوحة وفاء ساكنة ومثناة فوقية ولام بعدها ياء، وجاد وأشر، ثم توفيت ليا فتزوّج بأختها راحيل فولدت له يوسف وبنيامين، وقيل : جمع بينهما ولم يكن الجمع محرماً حينئذٍ ﴿آيات﴾، أي : علامات ودلائل على قدرة الله تعالى وحكمته في كل شيء ﴿للسائلين﴾ عن قصصهم.
قال الرازيّ : ولمن لم يسأل عنها وهو كقوله تعالى :﴿في أربعة أيام سواء للسائلين﴾ (فصلت، ١٠) وقيل : آيات على نبوّة محمد ﷺ وذلك أنّ اليهود سألوه عن قصة يوسف، وقيل : سألوه عن سبب انتقال ولد يعقوب من أرض كنعان إلى أرض مصر فذكر لهم قصة يوسف فوجدوها موافقة لما في التوراة، فعجبوا منه فكان دلالة على نبوّته ﷺ لأنه لم يقرأ الكتب المتقدّمة ولم يجالس العلماء وأصحاب الأخبار، ولم يأخذ عنهم شيئاً، فدل ذلك على أنّ ما يأتي به وحي سماوي أوحاه الله تعالى إليه وعرفه به، وهذه السورة تشتمل على أنواع من العبر والمواعظ والحكم منها رؤيا يوسف عليه السلام وما حقق الله تعالى فيها من حسد إخوته وما آل إليه أمره من الملك، ومنها ما اشتمل على حزن يعقوب وصبره على فقد ولده وما آل إليه أمره من بلوغ المراد، وغير ذلك من الآيات التي إذا فكر فيها الإنسان اعتبر، وقرأ ابن كثير ﴿آية﴾ على التوحيد، والباقون على الجمع.
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٠٣
إذ﴾، أي : واذكر إذ ﴿قالوا﴾، أي : بعض إخوة يوسف لبعض بعد أن بلغتهم الرؤيا وقالوا : ما يرضى أن تسجد له إخوته حتى يسجد له أبواه ﴿ليوسف وأخوه﴾، أي : بنيامين ﴿أحب إلى أبينا منا﴾ اللام لام الابتداء وفيها تأكيد وتحقيق لمضمون الجملة أردوا أنّ زيادة محبته لهما أمر ثابت لا شبهة فيه، وخبر المبتدأ أحب ووحد ؛ لأن أفعل يستوي فيه الواحد وما فوقه مذكراً كان أو مؤنثاً إذا لم يعرّف أو لم يضف، وقيل : اللام لام قسم تقديره والله ليوسف، وإنما قالوا : وأخوه وهم جميعاً إخوته ؛ لأنّ أمّهما كانت واحدة، والواو في قولهم :﴿ونحن عصبة﴾ واو الحال، أي : يفضلهما في المحبة علينا وهما اثنان صغيران لا كفاية فيهما ولا منفعة، ونحن جماعة أقوياء نقوم بمرافقه فنحن أحق بزيادة المحبة منهما لفضلنا بالكثرةوالمنفعة عليهما، والعصبة
١٠٣
والعصابة العشرة فما فوقها. وقيل : إلى الأربعين سموا بذلك ؛ لأنهم جماعة تعصب بهم الأمور ويستكفى بهم النوائب ﴿إنّ أبانا لفي ضلال﴾، أي : خطأ ﴿مبين﴾، أي : بيّن في إيثاره حب يوسف وأخيه علينا والقرب المقتضي للحب في كلنا واحد ؛ لأنّا في البنوّة سواء ولنا مزية تقتضي تفضيلنا وهي إنا عصبة لنا من النفع له والذّب عنه والكفاية ما ليس لهما.
تنبيه : هاهنا سؤالات : الأوّل : إنّ من المعلوم أنّ تفضيل بعض الأولاد على بعض يورث الحقد والحسد فلم أقدم يعقوب عليه السلام على ذلك ؟
أجيب : بأنه إنما فضلهما في المحبة والمحبة ليست في وسع البشر فكان معذوراً فيها ولا يلحقه في ذلك لوم.
الثاني : كيف اعترضوا على أبيهم وهم يعلمون أنه نبيّ وهم مؤمنون به ؟
وأجيب : بأنهم وإن كانوا مؤمنين بنبوّته لكن جوّزوا أن يكون فعله باجتهاد، ثم أنّ اجتهادهم أدّى إلى تخطئة أبيهم في ذلك الاجتهاد لكونهم أكبر سناً وأكثر نفعاً وغاب عنهم أنّ تخصيصهما بالبرّ كان لوجوه : أحدها : أنّ أمّهما ماتت، ثانيها : أنه كان في يوسف من آثار الرشد والنجابة ما لم يجده في سائر أولاده، ثالثها : أنه وإن كان صغيراً إلا أنه كان يخدم أباه بأنواع من الخدمة أعلى وأشرف مما كان يصدر عن سائر أولاده، والحاصل أنّ هذه المسألة كانت اجتهادية وكانت مخلوطة بميل النفس وموجبات الفطرة فلا يلزم من وقوع الاختلاف فيها طعن أحد الخصمين في دين الآخر.