وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي بكسر التاء في الوصل، والباقون بالضم، وأمّا الابتداء فجميع القراء يبتدؤون الهمزة بالضم ﴿فلما رأينه﴾، أي : النسوة ﴿أكبرنه﴾، أي : أعظمنه ودهشن عند رؤيته، واتفق الأكثرون على أنهنّ إنما أكبرنه بمحبتهنّ الجمال الفائق، والحسن الكامل وكان يوسف قد أعطي شطر الحسن، وقال عكرمة : كان فضل يوسف في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب.
وروي أنه ﷺ قال :"رأيت يوسف ليلة أسري بي إلى السماء كالقمر ليلة البدر" ذكره البغويّ بغير سند، وقال ابن إسحاق : كان يوسف إذا سار في أزقة مصر يتلألأ وجهه على الجدران كما يرى نور الشمس من الماء عليها ويقال : إنه ورث حسن آدم عليه السلام يوم خلقه الله تعالى قبل أن يخرج من الجنة، وقيل : ورث الجمال من جدّته سارة، وقيل : أكبرنه يعني حضن، والهاء للسكت يقال : أكبرت المرأة إذا حاضت، وحقيقته دخلت في الكبر ؛ لأنها بالحيض تخرج من حدّ الصغر إلى حدّ الكبر، وكأنّ أبا الطيب أخذ من هذا التفسير قوله :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١١٥
خف الله واستر ذا الجمال ببرقع ** فإن لحت حاضت في الخدور العواتق
وقيل : أمنين قال الكميت :
*ولما رأته الخيل من رأس شاهق ** صهلن وأمنين المنيّ المدفقا
وقال الرازي : إنما أكبرنه ؛ لأنهنّ رأين عليه نور النبوّة وسيما الرسالة، وآثار الخضوع والإخبات وشاهدن فيه شهادة الهيبة، وهيبة ملكية وهي عدم الالتفات إلى المطعوم والمنكوح وعدم الاعتداد بهنّ، وكان الجمال العظيم مقروناً بتلك الهيبة، فوقع الرعب والمهابة منه في قلوبهنّ ﴿وقطعنّ أيديهنّ﴾، أي : جرحنها بالسكاكين التي معهنّ، وهنّ يحسبن أنهنّ يقطعنّ الأترج، ولم يجدن الألم من فرط الدهشة بيوسف، وقال وهب : مات جماعة منهنّ ﴿وقلن حاش لله﴾، أي : تنزيهاً، له الرسم بغير ألف بعد الشين.
وقرأ أبو عمرو في الوصل دون الوقف بألف بعد الشين والباقون بغير ألف وقفاً ووصلاً ﴿ما هذا﴾، أي : يوسف عليه السلام ﴿بشراً﴾ وإعمال ما عمل ليس هي اللغة القدمى الحجازية ويدل عليها هذه الآية وقوله تعالى ﴿ما هنّ أمّهاتهم﴾ (المجادلة، ٢) ﴿إن﴾، أي : ما ﴿هذا إلا ملك كريم﴾، أي : على الله لما حواه من الحسن الذي لا يكون عادة في النسمة البشرية، فإنّ الجمع بين الجمال الرائق والكمال الفائق والعصمة البالغة من خواص الملائكة.
﴿قالت﴾، أي : زليخا للنسوة لما رأين يوسف ودهشن عند رؤيته ﴿فذلكن﴾، أي : فهذا هو
١١٩
﴿الذي لمتنني فيه﴾، أي : في محبته قبل أن تتصوّرنّه حق تصوره ولو تصورتنه بما عاينتن لعذرتنني، ثم أنها صرحت بما فعلت فقالت :﴿ولقد راودته عن نفسه فاستعصم﴾، أي : فامتنع من ذلك الفعل الذي طلبت، وإنما صرحت بذلك ؛ لأنها علمت أنها لا ملامة عليها منهنّ، وأنهنّ قد أصابهنّ ما أصابها عند رؤيته، ثم قالت :﴿ولئن لم يفعل ما آمره﴾، أي : وإن لم يطاوعني فيما دعوته إليه ﴿ليسجنن﴾، أي : ليعاقبن بالحبس ﴿وليكونا من الصاغرين﴾، أي : الذليلين المهانين، فقال النسوة ليوسف : أطع مولاتك فيما دعتك إليه، فاختار يوسف عليه السلام السجن على ما دعت إليه فلذلك.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١١٥
﴿قال رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه﴾ وإن كان هذا مما تشتهيه النفس، وذلك مما تكرهه نظراً إلى العاقبة، فإنّ الأوّل فيه الذم في الدنيا والعقاب في الآخرة، والثاني فيه المدح في الدنيا والثواب الدائم في الآخرة. فإن قيل : إنّ الدعاء كان منها فلم أضافه إليهنّ جميعاً ؟
أجيب : بأنهنّ خوّفنه من مخالفتها وزين له مطاوعتها، وقيل : إنهنّ دعونه إلى أنفسهنّ. قال بعض العلماء لو لم يقل السجن، أحب إليّ لم يبتل بالسجن والأولى بالعبد أن يسأل الله تعالى العافية، ولذلك ردّ رسول الله ﷺ على من كان يسأل الله الصبر بقوله له :"سألت الله البلاء فاسأله العافية" رواه الترمذي ﴿وإلا﴾، أي : وإن لم ﴿تصرف عني كيدهنّ﴾، أي : فيما أردن مني بالتثبيت على العصمة ﴿أصب﴾، أي : أمل ﴿إليهنّ﴾ يقال : صبا فلان إلى كذا إذا مال إليه واشتاقه ﴿وأكن﴾، أي : أصر ﴿من الجاهلين﴾، أي : من السفهاء بارتكاب ما يدعونني إليه، فإن الحكيم لا يفعل القبيح وفي ذلك دليل على أن من ارتكب ذنباً إنما يرتكبه عن جهالة، والقصد بذلك الدعاء ولذلك قال تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٢٠
فاستجاب له ربه﴾
، أي : فأجاب الله تعالى دعاءه الذي تضمنه هذا الثناء ؛ لأنّ الكريم يغنيه التلويح عن التصريح كما قيل :
*إذا أثنى عليك المرء يوماً ** كفاك من تعرّضه الثناء
﴿فصرف عنه كيدهن﴾، أي : فثبته بالعصمة حتى وطن نفسه على مشقة السجن وآثرها على اللذة المتضمنة للعصيان ﴿إنه هو السميع﴾، أي : لدعاء الملتجئين إليه ﴿العليم﴾، أي : للضمائر والنيات فيجيب ما صح فيه القصد وطاب منه العزم.


الصفحة التالية
Icon