﴿ثم بدا﴾، أي : ظهر ﴿لهم﴾، أي : العزيز وأصحابه ﴿من بعد ما رأوا الآيات﴾، أي : الدالة على براءة يوسف عليه السلام كشهادة الصبيّ وقدّ القميص وقطع النساء أيديهنّ واستعصامه عنهنّ ﴿ليسجننه حتى﴾، أي : إلى ﴿حين﴾ ينقطع فيه كلام الناس، وذلك أنّ المرأة قالت لزوجها : إن هذا العبد العبراني قد فضحني في الناس يقول لهم : إني راودته عن نفسه وأنا لا أقدر على إظهار عذري فإمّا أن تأذن لي فأخرج وأعتذر وإمّا أن تحبسه كما حبستني، فعند ذلك وقع في قلب العزيز أنّ الأصلح حبسه حتى يسقط عن ألسنة الناس ذكر هذا الحديث وحتى تقل الفضيحة فسجنه.
تنبيه : في فاعل بدا أربعة أوجه : أحسنها أنه ضمير يعود على السجن بفتح السين، أي : ظهر لهم حبسه. والثاني : أنّ الفاعل ضمير المصدر المفهوم من الفعل وهو بدا، أي : بدا لهم بداء. والثالث : أنه مضمر يدل عليه السياق، أي : بدا لهم رأي. والرابع : أنه محذوف وليسجننه قائم
١٢٠
مقامه، أي : بدا لهم السجن، فحذف وأقيمت الجملة مقامه، وليست الجملة فاعلاً ؛ لأن الجمل لا تكون كذلك، وقيل : الحبس هنا خمس سنين، وقيل : سبع سنين.
وقال مقاتل بن سليمان : حبس يوسف اثنتي عشرة سنة، وقال الرازي : والصحيح أنّ هذه المقادير غير معلومة، وإنما القدر المعلوم أنه بقي مسجوناً مدّة طويلة لقوله تعالى :﴿وادّكر بعد أمة﴾ (يوسف، ٤٥) وعن عكرمة قال : قال رجل ذو رأي للعزيز : متى تركت هذا العبد يعتذر إلى الناس، ويقص عليهم أمره فاتركه في بيتها لا يخرج إلى الناس فإن خرج للناس عذروه وفضحوا أهلك فأمر به فسجن.
﴿ودخل معه السجن فتيان﴾ وهما غلامان كانا للوليد بن نزوان العمليقي ملك مصر الأكبر أحدهما خبازه صاحب طعامه، والآخر ساقيه صاحب شرابه غضب الملك عليهما فحبسهما وكان السبب فيه أنّ جماعة من أشراف مصر أرادوا المكر بالملك واغتياله وقتله، فضمنوا لهذين الغلامين مالاً على أن يسما الملك في طعامه وشرابه فأجابا إلى ذلك ثم أنّ الساقي ندم ورجع عن ذلك، وقبل الخباز الرشوة وسم الطعام فلما حضر الطعام بين يدي الملك قال الساقي : لا تأكل أيها الملك فإنّ الطعام مسموم فقال الخباز : لا تشرب فإنّ الشراب مسموم. فقال الملك للساقي اشرب فشرب فلم يضره، وقال للخباز : كل من طعامك فأبى فأطعم من ذلك الطعام : دابة فهلكت، فأمر بحبسهما، وكان يوسف عليه السلام حين دخل السجن قال لأهله : إني أعبر الأحلام، فقال أحد الفتيين لصاحبه : هلم فلنجرّب هذا العبد العبراني فنتراءى له رؤيا قال ابن مسعود : وما رأيا شيئاً وإنما تحالما ليجربا يوسف وقال قوم : بل كانا رأيا حقيقة فرآهما يوسف وهما مهمومان فسألهما عن شأنهما فذكر أنهما صاحبا الملك حبسهما وقد رأيا رؤيا غمتهما، فقال يوسف : قصا عليّ ما رأيتما ﴿قال أحدهما﴾ وهو صاحب شراب الملك ﴿إني أراني أعصر خمراً﴾.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٢٠
فإني قيل : كيف يعقل عصر الخمر ؟
أجيب : عن ذلك بثلاثة أقوال :
أحدها : أن يكون المعنى أعصر عنب خمر، أي : العنب الذي يكون عصيره خمراً فحذف المضاف.
الثاني : إن العرب تسمي الشيء باسم ما يؤول إليه تقول : فلان يطبخ دبساً وهو يطبخ عصيراً.
الثالث : قال أبو صالح : أزد وعمان يسمون العنب بالخمر فوقعت هذه اللفظة إلى أهل مكة فنطقوا بها. قال الضحاك : نزل القرآن بألسنة جميع العرب وذلك أنه قال : إني رأيت في المنام كأني في بستان وإذا فيه شجرة فيها ثلاثة أغصان عليها ثلاثة عناقيد من عنب فجنيتها وكان كأس الملك بيدي فعصرتها فيه، وسقيت الملك فشربه ﴿وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه﴾ وذلك أنه قال : رأيت في المنام كأنّ فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبز وألوان الطعام وسباع الطير تنهش منه ﴿نبئنا﴾، أي : أخبرنا ﴿بتأويله﴾، أي : بتفسيره ﴿إنا نراك من المحسنين﴾، أي : في علم التفسير ؛ لأنه متى عبر لم يخطئ كما قال : وعلمتني من تأويل الأحاديث، وقيل : في أمر الدين ؛ لأنه كان شديد المواظبة على الطاعات من الصوم والصلاة، فإنه كان يصوم النهار ويقوم الليل كله، ومن كان كذلك فإنه يوثق بما يقوله في تعبير الرؤيا وفي سائر الأمور، وقيل : في حق الشركاء والأصحاب ؛ لأنه كان يعود مرضاهم ويؤنس حزينهم، وإذا ضاق
١٢١
على أحدهم وسع عليه وإذا احتاج أحدهم جمع له شيئاً، قيل : إنه لما دخل السجن وجد قوماً اشتدّ بلاؤهم وانقطع رجاؤهم وطال حزنهم فجعل يسكنهم ويقول : اصبروا وأبشروا تؤجروا فيقولون : بارك الله فيك يا فتى ما أحسن وجهك وخلقك وحديثك لقد بورك لنا في جوارك فمن أنت يا فتى ؟
قال : أنا يوسف بن صفيّ الله يعقوب بن ذبيح الله إسحاق بن خليل الله إبراهيم، فقال له عامل السجن : والله يا فتى لو استطعت لخليت سبيلك، ولكن سأحسن جوارك فكن في أي بيوت السجن شئت.