وروي أنّ الفتيين لما رأيا يوسف قالا : لقد أحببناك حين رأيناك، فقال لهما يوسف : أنشدكما الله أن لا تحباني فوالله ما أحبني أحد قط إلا دخل عليّ من حبه بلاء، لقد أحبتني عمتي فدخل عليّ بلاء ثم أحبني أبي فألقيت في الجب، وأحبتني امرأة العزيز فحبست، فلما قصا عليه الرؤيا كره يوسف أن يعبر لهما ما سألاه لما علم في ذلك من المكروه على أحدهما.
﴿قال﴾ معرضاً عن سؤالهما أخذاً في غيره من إظهار المعجزة في الدعاء إلى التوحيد ﴿لا يأتيكما طعام ترزقانه﴾، أي : في منامكما ﴿إلا نبأتكما بتأويله﴾، أي : في اليقظة ﴿قبل أن يأتيكما﴾ تأويله، وقيل : أراد به في اليقظة، يقول : لا يأتيكما طعام ترزقانه من منازلكما تطعمانه إلا نبأتكما بتأويله بقدره ولونه والوقت الذي يصل إليكما قبل أن يصل وأي طعام أكلتم، ومتى أكلتم وهذه كمعجزة عيسى عليه السلام حيث قال :﴿وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم﴾ (آل عمران، ٤٩) فقالا : هذا فعل العرافين والكهنة. فمن أين لك هذا العلم ؟
فقال : ما أنا بكاهن ﴿ذلكما﴾، أي : هذا التأويل والإخبار بالمغيبات ﴿مما علمني ربي﴾ وفي ذلك حث على إيمانهم ثم قواه بقوله ﴿إني تركت ملة﴾، أي : دين ﴿قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون﴾ وكرر لفظة هم للتأكيد لشدّة إنكارهم للمعاد. ولما ادعى يوسف عليه السلام النبوّة وأظهر المعجزة أظهر أنه من أهل بيت النبوّة بقوله :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٢٠
واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب﴾
ليسمعوا قوله ويطيعوا أمره فيما يدعوهم إليه من التوحيد، فإنّ الإنسان متى ادّعى حرفة أبيه وجدّه لم يستبعد ذلك منه، وأيضاً فكمال درجة إبراهيم وإسحاق ويعقوب أمر مشهور في الدنيا، فإذا أظهر أنهم آباؤه عظموه ونظروا إليه بعين الإجلال فكان انقيادهم له أتم وتأثير قلوبهم بكلامه أكمل.
فإن قيل : إنه كان نبياً فكيف قال : اتبعت ملة آبائي، والنبيّ لا بدّ وأن يكون مختصاً بشريعة نفسه ؟
أجيب : بأنّ مراده التوحيد الذي لا يتغير، أو لعله كان رسولاً من عند الله تعالى إلا أنه كان نبي على شريعة إبراهيم عليه السلام، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بسكون ياء آبائي، والباقون بالفتح ﴿ما كان﴾، أي : ما صح ﴿لنا﴾ معشر الأنبياء ﴿أن نشرك بالله من شيء﴾ لأنّ الله تعالى طهره وطهر آباءه عن الكفر ونظيره قوله تعالى :﴿ما كان لله أن يتخذ من ولد﴾ (مريم، ٣٥) وإنما قال : من شيء لأنّ ؛ أصناف الشرك كثيرة، فمنهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد النار، ومنهم من يعبد الكواكب، ومنهم من يعبد الملائكة، فقوله : من شيء ردّ على هؤلاء الطوائف وإرشاد إلى الدين الحق، وهو أنه لا موجد ولا خالق ولا رازق إلا الله ﴿ذلك﴾، أي : التوحيد ﴿من فضل الله علينا﴾ بالوحي ﴿وعلى الناس﴾، أي : سائرهم ببعثنا لارشادهم وتثبيتهم عليه ﴿ولكنّ أكثر الناس﴾، أي : المبعوث إليهم ﴿لا يشكرون﴾ هذه النعمة التي أنعم الله تعالى بها عليهم ؛ لأنهم تركوا عبادته وعبدوا غيره.
١٢٢
ثم دعاهم إلى الإيمان فقال :
﴿يا صاحبي السجن﴾، أي : يا صاحبيّ في السجن فأضافهما إلى السجن كما تقول : يا سارق الليلة، فكما أنّ الليلة مسروق فيها غير مسروقة، فكذلك السجن مصحوب فيه غير مصحوب وإنما المصحوب غيره وهو يوسف عليه السلام، أو يا ساكني السجن كما قيل لسكان الجنة : أصحاب الجنة، ولسكان النار : أصحاب النار ﴿أأرباب﴾، أي : آلهة ﴿متفرقون﴾، أي : متباينون من ذهب وفضة وصفر وحديد وخشب وحجارة وصغير وكبير ومتوسط وغير ذلك ﴿خير﴾، أي : أعظم في صفة المدح وأولى بالطاعة ﴿أم الله الواحد القهار﴾، أي : المتوحد بالألوهية الذي لا يغالب ولا يشارك في الربوبية غيره خير، والاستفهام للتقرير، وفي الهمزتين في ﴿أأرباب﴾ من القراءات ما في ﴿أأنذرتهم﴾ وقد مرّ.
فإن قيل : هل يجوز التفاضل بين الأصنام وبين الله تعالى حتى يقال : إنها خير أم الله ؟
أجيب : بأنّ ذلك خرج على سبيل الفرض، والمعنى : لو سلمنا أنه حصل منها ما يوجب الخير فهي خير أم الله الواحد القهار. ثم بين عجز الأصنام فقال :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٢٠


الصفحة التالية
Icon