﴿ثم يأتي من بعد ذلك﴾، أي : السبع المجدبات ﴿عام فيه يغاث الناس﴾، أي : يمطرون من الغيث وهو المطر، وقيل : ينقذون من قول العرب استغثت فأغاثني ﴿وفيه يعصرون﴾ من العنب خمراً، ومن الزيتون زيتاً، ومن السمسم دهناً، وأراد بذلك كثرة النعم والخير. وقال أبو عبيدة : ينجون من الكرب والشدّة والجدب. وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على الخطاب ؛ لأنّ الكلام كله مع الخطاب، والباقون بالياء على الغيبة ردّاً إلى الناس. ولما رجع الشرابي إلى الملك وعرض عليه التعبير الذي ذكره يوسف عليه السلام استحسنه.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٢٥
﴿وقال الملك﴾، أي : الذي العزيز في خدمته ﴿ائتوني به﴾ لأسمع ذلك منه وأكرمه وهذا يدلّ على فضيلة العلم فإنه سبحانه وتعالى جعل علمه سبباً لخلاصه من المحنة الدنيوية، فكيف لا يكون العلم سبباً للخلاص من المحن الأخروية ؟
فأتاه الرسول ليأتي به إلى الملك ﴿فلما جاءه﴾، أي : يوسف عليه السلام عن قرب من الزمان ﴿الرسول﴾ بذلك وهو الساقي وقال له : أجب الملك ﴿قال﴾ له يوسف عليه السلام ﴿ارجع إلى ربك﴾، أي : سيدك الملك، ولم يخرج معه حتى يظهر برهانه للملك ولا يراه بعين النقص ولذلك قال :﴿فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهنّ﴾ وإنما قال يوسف عليه السلام : فاسأله ما بال النسوة، ولم يقل : فاسأله أن يفتش عن حالهنّ ؛ لأنّ قوله : فاسأله يحتمل أن يكون بمعنى المسألة، أي : اسأله عن شأنهنّ وأن يكون بمعنى الطلب، وهو أن يفتش عن شأنهنّ فحسن تقييده بلفظ ما التي يسأل بها عن حقيقة الشيء ليهيجه أن يتحرك للتفتيش عن حالهنّ ؛ لأنّ الإنسان حريص على تحقيق الشيء ويستنكف أن ينسب إلى الجهل به بخلاف ما لو قال : سله أن يفتش، أي : اطلب منه فإنه لا يبالي بهذا الطلب ولا يلتفت إليه لا سيما الملوك.
١٢٧
وإنما لم يتعرّض لسيدته مع ما صنعته به كرماً ومراعاة للأدب، وقدّم سؤال النسوة وفحص حالهنّ لتظهر براءة ساحته ؛ لأنه لو خرج في الحال لربما كان يبقى في قلب الملك من تلك التهمة أثر، فلما التمس من الملك أن يفحص عن حال تلك الواقعة دل ذلك على براءته من تلك التهمة، فبعد خروجه لا يقدر أحد أن يلطخه بتلك الرذيلة وأن يتوصل بها إلى الطعن فيه، وفي ذلك دليل على أنه ينبغي للشخص أن يجتهد في نفي التهم ويتقي مواقعها وروي أنه ﷺ قال :"لقد عجبت من يوسف وصبره والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أجبتهم حتى اشترطت أن يخرجوني، ولقد عجبت منه حيث أتاه الرسول فقال : ارجع إلى ربك ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإجابة وبادرتهم الباب ولما ابتغيت العذر، إن كان لحليماً ذا أناة". وأصل الحديث في الصحيحين مختصراً، وإنما قال ﷺ ذلك على سبيل التواضع لا أنه ﷺ كان في الأمر منه مبادرة وعجلة لو كان مكان يوسف، والتواضع لا يصغر كبيراً ولا يضع رفيعاً ولا يبطل لذي حق حقه، لكنه يوجب لصاحبه فضلاً ويلبسه جلالة وقدراً، وقوله :"والله يغفر له" مثل هذه المقدمة مشعرة بتعظيم المخاطب من توقيره وتوقير حرمته كما تقول لمن تعظمه : عفا الله عنك ما صنعت في أمري، ورضي الله تعالى عنك ما جوابك عن كلامي، وقوله :"إن كان لحليماً" إن هي المخففة من الثقيلة، والأناة الوقار، وقيل : هو اسم من التأني في الأمور. وقرأ ابن كثير والكسائي بفتح السين ولا همزة بعدها، والباقون بسكون السين وهمزة مفتوحة بعدها ﴿إنّ ربي﴾، أي : الله ﴿بكيدهنّ عليم﴾ حين قلن أطع مولاتك، وفيه تعظيم كيدهنّ والاستشهاد بعلم الله تعالى عليه وأنه بريء مما عيب به، والوعيد لهنّ على كيدهنّ، وقيل : المراد بربي الملك، وجعله رباً لنفسه لكونه مربياً له، وفيه إشارة إلى كون ذلك الملك عالماً بكيدهنّ ومكرهنّ، ولما قال يوسف عليه السلام ذلك وأبى أن يخرج من السجن قبل تبين الأمر رجع الرسول إلى الملك فأخبره بما قال عليه السلام فكأنه قيل : فما فعل الملك ؟
فقيل :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٢٧