ولما خاف يعقوب عليه السلام أن يسبق من أمره هذا إلى بعض الأوهام أنّ الحذر يغني عن القدر نفى ذلك بقوله عليه السلام ﴿وما أغني﴾، أي : أدفع ﴿عنكم﴾ بقولي ذلك ﴿من الله من شيء﴾ قدره عليكم، وإنما ذلك شفقة، ومن مزيدة للتأكيد، واعلم أنّ الإنسان مأمور بأن يراعي الأسباب المعتبرة في هذا العالم بأن يجزم بأنه لا يحصل الا ما قدره الله تعالى وإن الحذر لايدفع القدر، فالإنسان مأمور بأن يحذر الأشياء المهلكة والأغذية الضارة، ويسعى في تحصيل المنافع ودفع المضارّ بقدر الإمكان، ومع ذلك يكون جازماً بأنه لا يصل إليه إلا ما قدّره الله تعالى، ولا يحصل في الوجود إلا ما أراده الله تعالى، فقوله عليه السلام :﴿لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة﴾ إشارة إلى رعاية الأسباب المعتبرة في هذا العالم، وقوله :﴿وما أغني عنكم من الله من شيء﴾ إشارة إلى عدم الالتفات إلى الأسباب بل إلى التوحيد المحض، والبراءة من كل شيء سوى الله تعالى. ولما قصر الأمر كله إليه تعالى وجب رد كل أمر إليه، وقصر النظر عليه، فقال منبهاً على ذلك ﴿إن الحكم إلا لله﴾ وحده الذي ليس الحكم إلا له ﴿عليه﴾، أي : على الله وحده ﴿توكلت﴾، أي : جعلته وكيلي فرضيت بكل ما يفعل ﴿وعليه﴾ وحده ﴿فليتوكل المتوكلون﴾، أي : الثابتون في باب التوكل، فإنّ ذلك من أعظم الواجبات من فعله فاز ومن أغفله خاب، وقد ثبت بالبرهان أن لا حكم إلا لله، فلزم القطع بأنّ حصول كل الخيرات ودفع كل الآفات من الله تعالى، وذلك يوجب أن لا توكل إلا على الله تعالى، فهذا مقام شريف عال.
والشيخ أبو حامد الغزالي أكثر في تقرير هذا المعنى في كتاب التوكل من كتب "إحياء علوم الدين" فمن أراد الاستقصاء فيه فليطالع ذلك الكتاب. ولما قال يعقوب عليه السلام :﴿وما أغني عنكم من الله من شيء﴾ صدّقه الله تعالى في ذلك فقال :
﴿ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم﴾، أي : متفرّقين ﴿ما كان﴾ ذلك التفرّق ﴿يغني عنهم من الله﴾، أي : من قضائه وأغرق في النفي فقال :﴿من شيء﴾، أي : مما قضاه عليهم كما تقدّم من قول يعقوب عليه السلام فسرّقوا وأخذ بنيامين بوجدان الصواع في رحله وتضاعفت المصيبة على يعقوب عليه السلام وقوله تعالى :﴿إلا حاجة﴾ استثناء منقطع، أي : لكن حاجة ﴿في نفس يعقوب﴾ وهي الوصول إلى ما أمر به شفقة عليهم ﴿قضاها﴾ يعقوب عليه السلام وأبرزها من نفسه إلى أولاده فعملوا فيها بمراده فاغني عنهم الخلاص من عقوق أبيهم فقط ﴿وإنه﴾، أي : يعقوب عليه السلام مع أمره لبنيه بذلك ﴿لذو علم﴾، أي : معرفة بالحكمين حكم التكليف وحكم التقدير واطلاع على الكونين عظيم ﴿لما علمناه﴾ بالوحي ونصب الحجج، ولذلك قال :﴿وما أغني عنكم من الله من شيء﴾ ولم يغتر بتدبيره. ولما كان قد يظنّ أنّ كل أحد يكون كذلك، أي : يعلم ما علمه نفى ذلك سبحانه وتعالى بقوله جل شأنه ﴿ولكنّ أكثر الناس﴾، أي : لأجل ما نالهم من الاضطراب ﴿لا يعلمون﴾، أي : ليسوا بذوي علم لما علمناهم لإعراضهم عنه واستفراغ قواهم في
١٣٨
الاهتمام بما وقع التكليف لهم به ومن أحوال الدنيا ومقابلة فطرهم القويمة السليمة بردّها إلى ما تدعوهم إليه الحظوظ والشهوات حتى لا يكون طب لمخلوق. ولما أخبر تعالى عن دخولهم إلى البلد أخبر عن دخولهم لحاجتهم إلى يوسف عليه السلام.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٣٦
فقال :﴿ولما دخلوا﴾، أي : أخوة يوسف عليه السلام ﴿على يوسف﴾ في المقدمة الثانية بأخيهم بنيامين قالوا : هذا أخونا فقال : أحسنتم واحتسبتم وستجدون خير ذلك عندي، ثم أنزلهم وأكرم منزلهم، ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة، فبقي بنيامين وحيداً فبكى وقال : لو كان أخي يوسف حياً أجلسني معه، فقال يوسف : لقد صار أخوكم هذا وحيداً فأجلسه معه على مائدته، وصار يؤاكله فلما كان الليل أمر أن ينزل كل اثنين منهم بيتاً، فبقي بنيامين وحده فقال يوسف هذا ينام معي على فراشي كما قال تعالى﴿آوى﴾ أي : ضم ﴿إليه أخاه﴾ فبات معه وجعل يوسف يضمه إليه ويشمه ثم قال له : ما اسمك ؟
فقال : بنيامين، قال : وما بنيامين ؟
قال : المثكل وذلك أنه لما ولد هلكت أمّه. قال : وما اسم أمّك ؟
قال : راحيل بنت لاوي. قال : فهل لك من ولد ؟
قال : نعم عشرة بنين. ولما رأى تأسفه لأخ له هلك، قال له : أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك ؟
فقال : ومن يجد أخاً مثلك ولكنك لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف وقام إليه وعانقه ﴿وقال إني أنا أخوك فلا تبتئس﴾، أي : لا تحزن ﴿بما كانوا يعملون﴾، أي : بشيء فعلوه بنا فيما مضى، فإنّ الله قد أحسن إلينا فلا تلتفت إلى أعمالهم المنكرة التي قد أقدموا عليها، وقد جمعنا الله تعالى على خير ولا تعلمهم بشيء من ذلك.


الصفحة التالية
Icon