وعن عمر رضي الله عنه أنه سأل رجلاً من بني سليم عن ذهاب بصره فقال يا أمير المؤمنين كنا بني ضبعاء عشرة وكان لنا ابن عمّ فكنا نظلمه فكان يذكرنا الله والرحم فلما رأى أنا لا نكف عنه انتهى إلى الحرم في الأشهر الحرم فجعل يرفع يديه ويقول :
*لا همّ أدعوك دعاء جاهداً ** اقتل بني ضبعاء إلا واحداً*
*ثم اضرب الرجل ودعه قاعداً ** أعمى إذا قيد يعيي القائداً*
قال فمات أخوتي التسعة في تسعة أشهر في كل شهر واحد وبقيت أنا فعميت ورماني الله عز وجل في رجلي فليس يلائمني قائد فقال عمر رضى الله تعالى عنه جعل الله هذا في الجاهلية إذ لا دين حرمة حرمها وشرفها ليرجع الناس عن انتهاك ما حرم مخافة تعجيل العقوبة فلما جاء الدين صار التوعد للساعة ويستجيب الله تعالى لمن يشاء فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين وإنما أكثرت من هذه الحكايات ليكون الداخل للحرم على حذر فإنّ الله تعالى حماه ومكَّن أهله في الحرم الذي أمنَّه بحرمة البيت وأمن قطانه بحرمته وكانت العرب في الجاهلية حولهم يتغاورون ويتناجدون وهم آمنون في حرمهم لا يخافون وبحرمة البيت هم قارّون بواد غير ذي زرع والثمرات والأرزاق تجبى إليهم كما قال تعالى :
﴿يجبى﴾ أي : يجمع ويحمل ﴿إليه﴾ أي : خاصة دون غيره من جزيرة العرب ﴿ثمرات كل شيء﴾ من النبات الذي بأرض العرب من ثمر البلاد الحارة كالبسر والرطب والنبق، والباردة كالعنب والتفاح والرمّان والخوخ، فإذا خولهم الله تعالى ما خوّلهم من الأمن والرزق بحرمة البيت وحدها وهم كفرة عبدة أصنام فكيف يستقيم أن يعرّضهم للخوف والتخطف ويسلبهم الأمن إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة الإسلام وإسناد الأمن إلى أهل الحرم حقيقة وإلى الحرم مجاز.
تنبيه : معنى الكلية هنا الكثرة كقوله تعالى :﴿وأوتيت من كل شيء﴾ (النمل : ٢٣) ولكن في
١٥٩
تعبيره بالمضارع وما بعده إشارة إلى الاستمرار وأنه يأتي إليه بعد ذلك من كل ما في الأرض من المال ما لم يخطر لأحد منهم في بال، وقرأ نافع بالتاء الفوقية، والباقون بالياء التحتية، وأمال حمزة والكسائي محضة، وورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح، ثم إنه تعالى بين أنّ الرزق من عنده بقوله تعالى :﴿رزقاً من لدنا﴾ أي : فلا صنع لأحد فيه بل هو محض تفضل.
تنبيه : انتصاب رزقاً على المصدر من معنى يجبى أو الحال من ثمرات لتخصيصها بالإضافة كما تنصب عن النكرة المخصصة وإن جعلته اسماً للمرزوق انتصب على الحال من ثمرات ﴿ولكن أكثرهم﴾ أي : أهل مكة وغيرهم ممن لا هداية له ﴿لا يعلمون﴾ أي : ليس لهم قابلية للعلم حتى يعلموا أنا نحن الفاعلون لذلك بل هم جهلة لا يتفطنون له ولا يتفكرون ليعلموا، وقيل : إنه متعلق بقوله تعالى :﴿من لدنا﴾ أي : قليل منهم يتدبرون فيعلمون أنّ ذلك رزق من عند الله إذ لو علموا لما خافوا غيره، ثم بين تعالى أنّ الأمر بالعكس فإنهم أحقِّاء بأن يخافوا من بأس الله تعالى على ما هم عليه بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٥٦
وكم أهلكنا من قرية﴾
أي : من أهل قرية وأشار إلى سبب الإهلاك بقوله تعالى :﴿بطرت معيشتها﴾ أي : وقع منها البطر في زمن عيشها الرخيّ الواسع فكان حالهم كحالكم في الأمن وإدرار الرزق فلما بطروا معيشتهم أهلكناهم، ومعنى بطرهم لها قال عطاء : أنهم أكلوا رزق الله وعبدوا غيره، وقيل : البطر سوء احتمال الغنى وهو أن لا يحفظ حق الله تعالى فيه.
تنبيه : انتصاب معيشتها إما بحذف الجار واتصال الفعل كما في قوله تعالى :﴿واختار موسى قومه﴾ (الأعراف : ١٥٥)
أو بتقدير حذف ظرف الزمان وأصله بطرت أيام معيشتها، وإما بتضمين بطرت معنى كفرت أو خسرت، أو على التمييز، أو على التشبيه بالمفعول به وهو قريب من سفه نفسه ﴿فتلك مساكنهم﴾ خاوية ﴿لم تسكن من بعدهم﴾ بعد أن طال ما تعالوا فيها ونمَّقوها وزخرفوها وزفوا فيها الأبكار وفرحوا بالأعمال الكبار ﴿إلا﴾ سكوناً ﴿قليلاً﴾ قال ابن عباس : لم يسكنها إلا المسافرون ومارّوا الطريق يوماً أو ساعة من ليل أو نهار ثم تصير يباباً موحشة كالقفار بعد أن كانت متمنعة الفناء ببيض الصفاح وسمر القنا، قال الزمخشري : ويحتمل أنّ شؤم معاصي المهلكين بقي في أثره ديارهم فكل من سكنها من أعقابهم لم يبق فيها إلا قليلاً ﴿وكنا﴾ أي : أزلاً وأبداً ﴿نحن﴾ لا غيرنا ﴿الوارثين﴾ منهم إذ لم يخلفهم أحد يتصرّف تصرّفهم في ديارهم وسائر متصرّفاتهم قال القائل :
*تتخلف الآثار عن أصحابها ** حيناً ويدركها الفناء فتتبع*


الصفحة التالية
Icon