﴿وما كان ربك﴾ أي : المحسن إليك بالإحسان بإرسالك إلى الناس ﴿مهلك القرى﴾ أي : هذا الجنس كله بجرم وإن عظم ﴿حتى يبعث في أمّها﴾ أي : أعظمها وأشرفها ﴿رسولاً﴾ لأنّ غيرها تبع لها ولم يشترط كونه من أمها فقد كان عيسى عليه السلام من الناصرة وبعث إلى بيت المقدس ﴿يتلوا عليهم﴾ أي : أهل القرى كلهم ﴿آياتنا﴾ الدالة على ما ينبغي لنا من الحكمة وبما لها من الإعجاز على نفوذ الكلمة وباهر العظمة إلزاماً للحجة وقطعاً للمعذرة لئلا يقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً، ولذلك لما أردنا عموم الخلق بالرسالة جعلنا الرسول وهو محمد ﷺ خاتم الأنبياء من
١٦٠
أم القرى كلها وهي مكة البلد الحرام ﴿وما كنا مهلكي القرى﴾ أي : كلها بعد الإرسال ﴿إلا وأهلها ظالمون﴾ أي : غريقون في الظلم بالعصيان بترك ثمرات الإيمان وتكذيب الرسل.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٥٦
﴿وما أوتيتم من شيء﴾ أي : من أسباب الدنيا ﴿فمتاع﴾ أي : فهو متاع ﴿الحياة الدنيا﴾ تتمتعون بها أيام حياتكم وليس يعود نفعه إلى غيرها فهو آيل إلى فساد وإن طال زمن التمتع به ﴿وزينتها﴾ أي : فهو زينة الحياة الدنيا التي هي كلها فضلاً عن زينتها إلى فناء فليست هي ولا شيء بأزلي ولا أبدي ﴿وما عند الله﴾ أي : الملك الأعلى وهو ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ﴿خير﴾ على تقدير مشاركة ما في الدنيا له فالخيرية في ظنكم لأنّ الذي عنده أطيب وأكثر وأشهى وأزهى ﴿و﴾ هو مع ذلك كله ﴿أبقى﴾ لأنه وإن شارك متاع الدنيا في أنه لم يكن أزلياً فهو أبدي وهذا جواب عن شبههم فإنهم قالوا تركنا الدين لئلا تفوتنا الدنيا فبين تعالى أنّ ذلك خطأ عظيم لأنّ ما عند الله خير وأبقى من وجهين : الأوّل : أنّ المنافع هناك أعظم، والثاني : أنها خالصة عن الشوائب ومنافع الدنيا مشوبة بالمضار بل المضار فيها أكثر، وأما أنها أبقى فلإنها دائمة غير منقطعة ومن قابل المتناهي بغير المتناهي كان عدماً فظهر بهذا أنّ منافع الدنيا لا نسبة لها إلى منافع الآخرة فلا جرم نبه على ذلك بقوله تعالى :﴿أفلا يعقلون﴾ أنّ الباقي خير من الفاني فيستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير فمن لم يرجِّح منافع الآخرة على منافع الدنيا فإنه يكون خارجاً عن حدّ العقل، قال ابن عادل ورحم الله الشافعيّ حيث قال : من أوصى بثلث ماله لأعقل الناس صرف ذلك الثلث إلى المشتغلين بطاعة الله تعالى لأنّ أعقل الناس من أعطى القليل وأخذ الكثير وما هم إلا
١٦١
المشتغلون بالطاعة، فكأنه رحمه الله تعالى إنما أخذه من هذه الآية انتهى، وقرأ أبو عمرو بالياء وهو أبلغ في الموعظة لاشتماله على الالتفات للإعراض به عن خطابهم، والباقون بالتاء على الخطاب جرياً على ما تقدّم.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٦١
أفمن وعدناه﴾ على عظمتنا في الغنى والقدرة والصدق ﴿وعداً حسناً﴾ لا شيء أحسن منه في موافقته للأمنية وبقائه وهو الجنة فإن حسن الوعد بحسن الموعود ولذلك سمى الله تعالى الجنة بالحسنى ﴿فهو لاقيه﴾ أي : مدركه لامتناع الخلف في وعده ولذلك عطفه بالفاء المعطية معنى السببية ﴿كمن متعناه متاع الحياة الدنيا﴾ أي : الذي هو مشوب بالآلام مكدر بالمتاعب مستعقب للتحسر على الانقطاع، وعن ابن عباس أن الله تعالى خلق الدنيا وجعل أهلها ثلاثة أصناف : المؤمن والمنافق والكافر فالمؤمن يتزوّد والمنافق يتزين والكافر يتمتع ﴿ثم هو﴾ مع ذلك كله ﴿يوم القيامة﴾ الذي هو يوم التغابن من خسر فيه لم يربح أصلاً ﴿من المحضرين﴾ أي : المقهورين على الحضور إلى مكان يود لو افتدى منه بملء الأرض ذهباً لم يقبل منه، قال قتادة يحضره المؤمن والكافر، قال مجاهد : نزلت في النبيّ ﷺ وأبي جهل، وقال محمد بن كعب نزلت في حمزة وعلي وفي أبي جهل، وقال السدّي : نزلت في عمار والوليد بن المغيرة.
تنبيه : ثم لتراخي حال الإحضار عن حال التمتع في الزمان أو الرتبة، وقرأ ثم هو قالون والكسائي بسكون الهاء، والباقون بالضم.