﴿وقدمنا﴾ أي : وعمدنا بما لنا من العظمة والقدرة الباهرة في ذلك اليوم الذي يرون فيه الملائكة سواء كان في الدنيا أم في الآخرة ﴿إلى ما عملوا من عمل﴾ أي : من مكارم الأخلاق من الجود وصلة الرحم وإغاثة الملهوف ونحو ذلك ﴿فجعلناه﴾ لكونه لم يؤسس على الإيمان، وإنما هو للهوى والشيطان ﴿هباءً﴾ وهو ما يرى في شعاع الشمس الداخل من كوّة مما يشبه الغبار ﴿منثوراً﴾ أي : مفرقاً أي : مثله في عدم النفع إذ لا ثواب فيه لعدم شرطه ويجازون عليه في الدنيا، فتكون النار مستقرهم ومقيلهم، ولهذا بين حال أضدادهم وهم المؤمنون بقوله تعالى :
﴿أصحاب الجنة يومئذٍ﴾ أي : يوم إذ يرون الملائكة ﴿خير مستقراً﴾ من الكفار ﴿وأحسن مقيلاً﴾ منهم، والمستقر المكان الذي يكونون فيه في أكثر أوقاتهم مستقرين يتجالسون ويتحادثون، والمقيل : المكان الذي يأوون إليه للاسترواح إلى أزواجهم والتمتع بمغازلتهن وملامستهن كما أن المترفين في الدنيا يعيشون على ذلك الترتيب، روي : أنه يفرغ من الحساب في نصف ذلك اليوم، فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ؛ قال ابن مسعود : لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، وقال ابن عباس في هذه الآية : الحساب في ذلك اليوم في أوله، وقال : يوم القيامة يقصر على المؤمنين حتى يكون قدر ما بين العصر إلى غروب الشمس.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٤
تنبيه : في أفعل قولان : أحدهما : أنها على بابها من التفضيل، والمعنى : أن المؤمنين خير في الآخرة مستقراً من مستقر الكفار، وأحسن مقيلاً من مقيلهم ولو فرض أن يكون لهم ذلك أو على أنهم خير في الآخرة منهم في الدنيا.
والثاني : أن يكون لمجرد الوصف من غير مفاضلة ومن ذلك المعنى قوله تعالى :﴿إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون﴾ (يس، ٥٥)
ذكروا في تفسير الشغل افتضاض الأبكار، وإنما سمي مكان دعتهم واسترواحهم الحور مقيلاً مع أنه لا نوم في الجنة على طريق التشبيه. ثم عطف تعالى على قوله تعالى يوم يرون قوله تعالى :
﴿ويوم تشقق السماء﴾ أي : كل سماء
١٥
﴿بالغمام﴾ أي : كما تشقق الأرض بالنبات فيخرج من خلال شقوقها، وهو غيم أبيض رقيق مثل الضبابة ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم.
تنبيه : في هذه الباء ثلاثة أوجه : أحدها : أنها سببية، أي : بسبب الغمام يعني سبب طلوعه منها، ونحوه ﴿السماء منفطر به﴾ (المزمل، ١٨)
كأنه الذي تتشقق به السماء، الثاني : أنها للحال أي : ملتبسة بالغمام، الثالث : أنها بمعنى عن أي : عن الغمام كقوله تعالى :﴿يوم تشقق الأرض عنهم سراعاً﴾ (ق، ٤٤)
والباء وعن يتعاقبان تقول : رميت عن القوس، وبالقوس، وقرأ أبو عمرو والكوفيون بتخفيف الشين، والباقون بتشديدها، ثم أشار تعالى إلى جهل من طلب نزول الملائكة دفعة واحدة بقوله تعالى :﴿ونزل الملائكة﴾ أي : بالتدريج بأمر حتم لا يمكنهم التخلف عنه بأمر من الأمور وغيره من الذين طلبوا أن يروهم في حال واحد ﴿تنزيلاً﴾ أي في أيديهم صحائف الأعمال ؛ قال ابن عباس : تتشقق السماء الدنيا، فينزل أهلها، وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس، ثم تتشقق السماء الثانية فينزل أهلها، وهم أكثر من أهل سماء الدنيا وأهل الأرض جناً وإنساً، ثم كذلك حتى تتشقق السماء السابعة، وأهل كل سماء يدورون على السماء التي قبلها، ثم تنزل الكروبيون ثم حملة العرش.
فإن قيل : ثبت أن نسبة الأرض إلى سماء الدنيا كحلقة في فلاة، فكيف تسع الأرض هؤلاء ؟
أجاب بعض المفسرين : بأن الملائكة تكون في الغمام والغمام يكون مقر الملائكة، ويجوز أن الله تعالى يوسع الأرض حتى تسع الجميع، وقرأ ابن كثير بنونين الأولى مضمومة والثانية ساكنة وتخفيف الزاي ورفع اللام، ونصب الملائكة، والباقون بنون واحدة والزاي مشددة ونصب اللام ورفع الملائكة، ثم بين تعالى أن ذلك اليوم لا يقضي فيه غيره بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٤
الملك يومئذٍ﴾
أي : إذ تشقق السماء بالغمام، ثم وصف الملك بقوله تعالى :﴿الحق﴾ أي : الثابت ثباتاً لا يمكن زواله، ثم أخبر عنه بقوله تعالى :﴿للرحمن﴾ أي : العام الرحمة في الدارين، ومن عموم رحمته وحقية ملكه أن يسر قلوب أهل وده بتعذيب أهل عداوته الذين عادوهم فيه لتضييعهم الحق باتباع الباطل، ولولا اتصافه بالرحمة لم يدخل أحد الجنة، فإن قيل : مثل هذا الملك لم يكن قط إلا للرحمن، فما الفائدة في قوله تعالى :﴿يومئذٍ﴾ ؟
أجيب : بأن في ذلك اليوم لا مالك له سواه لا في الصورة ولا في المعنى، فتخضع له الملوك وتعنو له الوجوه، وتذل له الجبابرة بخلاف سائر الأيام ﴿وكان﴾ أي : ذلك اليوم الذي تظهر فيه الملائكة الذي طلب الكفار رؤيتهم له ﴿يوماً على الكافرين عسيراً﴾ أي : شديد العسر والاستعار.


الصفحة التالية
Icon